شهادات نسائية: العنف الذي يتجاوز الجسد

شهادات نسائية: العنف الذي يتجاوز الجسد

شهادات نسائية: العنف الذي يتجاوز الجسد

كتبت/ ريم الربيعي

   في كل مرة نتحدث فيها عن العنف المسلط على النساء، يذهب الذهن مباشرة إلى الضرب والكدمات والعنف الجسدي المباشر. غير أن الواقع يكشف وجهًا أكثر قسوة وخفاءً: الآثار النفسية العميقة التي يخلفها العنف، والتي قد ترافق النساء لسنوات طويلة حتى بعد توقف الاعتداء. ويُعدّ الاكتئاب من أبرز هذه الآثار، وهو مرض صامت يتسلل إلى حياة الضحايا ويقيدها من الداخل.

شهادات من قلب المعاناة
   حين تتحدث النساء عن تجاربهن مع العنف، لا يصفن فقط صفعات أو آثار ضرب تزول مع مرور الأيام، بل يروين وجعًا يتجاوز حدود الجسد ليصل إلى الروح. فالكلمة الجارحة قد تترك جرحًا أعمق من الكدمات، والإهانة المتكررة قد تُحطم الثقة بالنفس أكثر مما يفعل الألم الجسدي.

"العنف اللفظي كان أمرّ من الضرب"
   تقول نجوى (40 سنة، من تونس) إنها لم تتعرض للضرب المباشر، لكن زوجها كان يهاجمها يوميًا بالكلمات الجارحة والتهديدات. تصف تجربتها قائلة: "الكدمات تُشفى، لكن الكلمات تبقى عالقة في الذاكرة. عندما تسمعين يوميًا أنك عديمة الفائدة وأنك لا تستحقين الاحترام، تبدأين في تصديق ذلك. هذا ما حدث لي، وفجأة وجدت نفسي غير قادرة على مغادرة السرير لأيام".

   أما مريم (27 سنة، من تونس)، فقد تعرضت لتحرش متواصل في مقر عملها، وحين اشتكت لم تُؤخذ شكواها بجدية، وهذا التجاهل دفعها إلى الانعزال والانطواء، حتى أصبحت عاجزة عن مواجهة محيطها. تقول:"شعرت أنني بلا صوت، وكأنني غير موجودة، ومن هنا بدأ الاكتئاب يتسلل إلى حياتي".

"كنت أبتسم في العلن… وأبكي في الخفاء"
   تحكي سارة (34 سنة، أم لطفلين من اليمن) أنها عاشت لسنوات تحت سلطة زوج عنيف جسديًا ولفظيًا. في البداية، كانت تحاول أن تُخفي الأمر عن عائلتها وأطفالها، بل حتى عن نفسها، معتبرة أن "التضحيات" من أجل استمرار الزواج أمر طبيعي. 

   غير أن تكرار الاعتداءات ولد لديها شعورًا بالعجز وفقدان الثقة بالذات. تقول بصوت مبحوح: "كنت أخرج للعمل وأبتسم أمام الزملاء، لكن في داخلي كنت منهارة. حين أعود إلى البيت، أغلق الباب على نفسي وأبكي بلا توقف. لم أعد أرى معنى لحياتي، حتى النوم صار صعبًا".

"كنت أظن أن الصمت يحمي أبنائي"
   ليلى (42 سنة، ربة بيت من مصر) تحكي أنها ظلت أكثر من عشر سنوات تخفي معاناتها من العنف عن محيطها، خوفًا من "فضيحة" أو من تفكك أسرتها. لكنها اكتشفت لاحقًا أن صمتها لم يحمِ أبناءها، بل جعلهم يعيشون في جو من التوتر الدائم.

   تقول: "كنت أستيقظ كل صباح وأحاول إقناع نفسي بأنني قوية. لكن داخلي كان يتفتت. اكتشفت أن ابنتي المراهقة بدأت تظهر عليها أعراض الاكتئاب هي الأخرى، لأنها كانت ترى كل شيء. شعرت بالذنب مضاعفًا: مرة لأنني ضحية، ومرة أخرى لأنني لم أحمها".

"العنف الاقتصادي سرق مني كرامتي"
   نور (30 سنة، من مصر) لم تتعرض للضرب المباشر، لكنها عانت من العنف الاقتصادي. زوجها كان يمنعها من العمل، ويعطيها مصروفًا يوميًا بالكاد يكفي للحاجيات الأساسية، مع إذلال متواصل. بعد سنوات من التبعية المالية، دخلت في حالة اكتئاب شديد، شعرت خلالها بأنها "أسيرة داخل بيتها".

   تقول نور: "أصعب ما في الأمر أنني لم أكن أملك ثمن تذكرة حافلة للذهاب إلى الجمعية التي عرضت مساعدتي. كنت أشعر أنني بلا قيمة، مجرد خادمة في بيت لا صوت لي فيه".

"العنف الجنسي جعلني أكره جسدي"
   سناء (اسم مستعار، 25 سنة، من اليمن) تعرضت للاغتصاب من قريب لها في سن صغيرة. لم تجرؤ على البوح بما حصل إلا بعد سنوات طويلة، لكنها تقول إن الصمت كان أثقل من العنف نفسه. تروي تجربتها قائلة: "كنت أكره النظر إلى المرآة. أشعر أن جسدي خانني. كلما حاولت بناء علاقة عاطفية جديدة، يعود الخوف والعار ليخنقاني. الطبيب النفسي أخبرني أن ما أمرّ به هو اكتئاب ما بعد الصدمة، لكن عائلتي لم تتفهم. كانوا يقولون لي: "انسي الماضي". كيف أنسى وأنا أعيش فيه كل يوم؟"

"حتى بعد الطلاق… الاكتئاب لم يتركني"
   خديجة (36 سنة، من تونس) تمكنت من الطلاق بعد سنوات من العنف الزوجي، لكنها اكتشفت أن الخلاص القانوني لا يعني الشفاء النفسي. تضيف: "ظننت أنني حين أخرج من بيته سأستعيد حياتي. لكنني وجدت نفسي غارقة في نوبات بكاء مفاجئة، وعدم قدرة على التواصل حتى مع عائلتي. المحامي أنهى ملفي، لكن لا أحد ساعدني على معالجة الجروح الداخلية".

شهادات تعكس أزمة مجتمعية
   القاسم المشترك بين هذه الحكايات ليس الألم النفسي وحده، بل ذلك الصمت الثقيل الذي يخيم على محيط الضحايا. كثير من النساء حين تجرأن على البوح بما يعشنه، اصطدمن بآذان صماء وقلوب لا تبالي. 

   المجتمع ما زال ينظر إلى العنف كـ"شأن عائلي داخلي" يُغلق عليه الباب، بينما تكتفي المؤسسات الرسمية بتسجيل آثار الضرب والكدمات، متجاهلة الجروح الأعمق التي تنزف في الداخل. هكذا يبقى الألم النفسي بلا اعتراف، وكأنّه جرح خفي لا يستحق العلاج.

الاكتئاب: الوجه الخفي للعنف
   تشير أبحاث علم النفس والاجتماع إلى أنّ العنف النفسي واللفظي يترك آثارًا طويلة المدى تفوق في أحيان كثيرة آثار العنف الجسدي. فالمرأة التي تتعرض للإهانة المستمرة أو الإذلال أو التهديد، تدخل في دائرة من الشك بالذات والشعور بالذنب، مما يمهد الطريق لاضطرابات نفسية مثل فقدان الثقة بالنفس والشعور بالدونية، واضطرابات النوم والأكل، والانعزال الاجتماعي والانطواء، وفقدان الرغبة في العمل أو الدراسة، والتفكير في الانتحار في الحالات القصوى.

   وفي تقرير لمنظمة الصحة العالمية (2022)، تم التأكيد على أن النساء اللواتي يتعرضن للعنف أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب بنسبة مرتين مقارنة بغيرهن.

   ما تكشفه شهادات النساء ليس مجرد حكايات فردية، بل مرآة لجرح جماعي يعيشه المجتمع بأسره. فالعنف لا يكتفي بترك كدمات على الأجساد، بل يزرع ندوبًا في النفوس قد لا تُرى، لكنها تنخر الروح بصمتٍ طويل. إن الاكتئاب الذي يطارد الضحايا ليس قدرًا محتومًا، بل نتيجة لصمت المجتمع وتقاعس المؤسسات عن منح الدعم اللازم.

   ولعل الخطوة الأولى نحو التغيير تبدأ بالاعتراف: الاعتراف بأنّ العنف النفسي جريمة، والصمت عنه تواطؤ. حينها فقط يمكن أن تتحول آهات النساء من صرخات مكتومة إلى قوة تغيير، ومن جروح خفية إلى دعوة لبناء مجتمع يعترف بألمهن… ويحمي كرامتهن.