العمل شرف وكرامة

العمل شرف وكرامة

العمل شرف وكرامة

كتبت/ ريم درويش 

   قد تكون من أقسى اللحظات التي يختبرها الإنسان في حياته، أن يُهان وهو يؤدي عملًا شريفًا يعتزّ به، عملًا لا تقوم الحياة بدونه وإن تجاهله الناس.

   في صباحٍ باكر، كان الرجل يقف في قلب الشارع، ينحني ليجمع ما تبعثر من بقايا الليل: أوراقًا ذابلة، قوارير مهشَّمة، وأعقاب سجائر تناثرت بلا اكتراث. كان يُحرِّك يديه بصبر، وعيناه تلمعان بشعورٍ دفين من الرضا والفخر؛ فهو لا يرى نفسه عاملًا عاديًا، بل حارسًا صامتًا لوجه مدينته، يحفظها نقية كي تظلّ جديرة بالحياة.

   كان يعلم في داخله أن قيمة الإنسان لا تُقاس بنوع عمله، وإنما بصدق ما يقدِّمه. ومع كل حركة يقوم بها، كان يُحدث نفسه: "لو علم هؤلاء أن نظافة الشوارع مرآة لنظافة قلوبهم، لما تركوا قذاراتهم خلفهم بهذه الخفة".

   وبينما كان منهمكًا في عمله، مرّ شاب متأنق، يعلو صوته بالضحكات المصطنعة، يحمل هاتفًا براقًا وكبرياءً فارغًا. توقف أمام الرجل لحظة، نظر إليه من علٍ، ثم قال ببرودٍ جارح، وبنبرة استعلاءٍ كسيفٍ يقطع الهواء: "اغرب عن وجهي، أنت مجرد عامل نظافة!"

   تساقطت الكلمات كالسهم، مشبعة بالاحتقار، كأنها تُقصيه من دائرة الوجود، وتجرده من أي قيمة أو كرامة. لكن الرجل لم يتأثر بالقدر الذي توقعه الشاب. رفع رأسه بهدوء، ونظر إليه نظرة عميقة ثابتة، نظرة من اعتاد مواجهة قسوة الناس بصبرٍ وصمت. كانت عيناه تقولان دون أن ينطق: "أنا لست مجردًا من شيء، إن وجودي هو ما يمنح حياتك نظافةً أقل قبحًا. أنا من يصنع لك ممرًّا نقيًا كي لا تغرق في أوساخك، أما أنت فتمشي متكبرًا فوق ما صنعته بيدي".

   لم يُجب بلسانه، بل قالها بقلبه المكسور، وعاد إلى عمله كما لو أن شيئًا لم يكن. تابع يكنس الطريق صامتًا، شامخًا بصبره.

   رحل الشاب بخطوات متعجرفة، يظن أنه انتصر بالكلمة، لكنه ترك وراءه قذارة معنوية أكبر من أي قاذورات جمعها العامل في سلته.

   وبينما استأنف الرجل عمله، همس لنفسه كمن يوجه وصية:
"لا تُهن إنسانًا بسبب مهنته، فالعمل شرفٌ ما دام يُطعم من تعب اليد. لا تظنن نفسك أفضل من غيرك لمجرد أن ثوبك أنيق أو جيبك ممتلئ. قد يأتي يوم تحتاج فيه إلى من تزدريه، فتجد نفسك صغيرًا أمام قلبه الكبير. نحن جميعًا أناس، لكلٍّ منا أهميته في هذه الحياة".

   لقد علم أن الناس قد يمرّون ولا يلتفتون، وقد يرون عرقه مجرد قطرات عابرة، لكنه أيقن أن الله يرى، وأن المدينة بأكملها شاهدة. وما قيمة الحياة، إن لم نتركها أنظف مما وجدناها عليه؟