نساء 14 أكتوبر... الوجه الآخر للثورة

نساء 14 أكتوبر... الوجه الآخر للثورة
كتبت/ لطيفة الظفيري
حين نتحدث عن ثورة الرابع عشر من أكتوبر عام 1963، لا يمكن أن نغفل الدور البطولي الذي لعبته النساء في عدن. فقد كانت والدتي، فتحية باسنيد، واحدة من نساء تلك المرحلة، ضمن خلية نسائية ترأستها العمة المناضلة الراحلة نجوى مكاوي. لم يكن دافعهن البحث عن سلطة أو شهرة، بل كان إيمانًا عميقًا بحق الوطن في التحرر، وبواجبهن في مقاومة الاستعمار البريطاني بكل ما يملكن من قوة وإرادة.
بهذه العبارات يعبّر المحامي جسّار مكاوي، نجل المناضلة فتحية باسنيد، عن جوهر الدافع الذي حرّك النساء في ثورة أكتوبر. ويضيف أن المناضلة نجوى مكاوي تبرعت بتركَتها من والدها لصالح النضال، وكانت نموذجًا للمرأة التي آمنت بأن الحرية لا تُشترى، بل تُنتزع. أما والدته، فتحية، فكانت من أولئك اللواتي حملن الرسائل، ونظّمن الاجتماعات، ووقفن في وجه الخوف، ليصنعن مع رفيقاتهن ذاكرة نسوية ثورية لا تزال حيّة في وجداننا.
ووفقًا للباحث جبران شمسان، شاركت في ثورة 14 أكتوبر نساء كثيرات تركن بصمات نضالية بارزة، منهن المناضلة رضية إحسان، وصافيناز خليفة، ونجوى مكاوي، ورضية شمشير، وزهرة رحمة الله، وجميلة الأوبلي التي لُقّبت بـ"جميلة بوحيرد اليمنية"، إلى جانب وديعة عزعزي، وفتحية شعيبي، وعايدة يافعي، وشفيقة عراسي، وليلى جبلي، وبهاء سوقي. ومن بين المشاركات أيضًا أسماء مبجر، ونفيسة منذوق، وهناء حامد خان، وصباح مدهش، وعديلة الرفاعي، وعديلة حنبلة، وكلثوم منذوق، ونجاة أحمد قاسم، ولطيفة عبد العزيز هائل، ونجاة الأسودي، ولطيفة باوزير، وسميرة الأصبحي، وراقية حريري، والشهيدة لطيفة شوذري، وليلى السيد علي، وأنيسة شميري. وقد تجاوز عدد المناضلات المشاركات في الثورة الآلاف، وكنّ جميعًا جزءًا من الحراك الوطني التحرري في عدن والجنوب.
أدوار المرأة في ثورة 14 أكتوبر
تسلط الباحثة سعاد العلس، في كتابها "نساء عدن: تنوير وتحرير"، الضوء على الأدوار الحيوية التي أدّتها المرأة العدنية في ثورة الرابع عشر من أكتوبر ضد الاستعمار البريطاني، مؤكدة أن النساء لم يكنّ مجرد داعمات، بل شريكات فعليات في الحراك الوطني. فقد شاركن في تنظيم المظاهرات، وتقدّمن صفوف الإضرابات، أبرزها إضراب طالبات كلية البنات في خور مكسر عام 1965، الذي شكّل لحظة مفصلية في تصعيد المقاومة الشعبية. كما انخرطت العديد منهن في العمل السري، وأسهمن في توزيع المنشورات وتقديم الدعم اللوجستي للمقاومين.
كما تذكر الكاتبة الصحفية نادرة عبد القدوس أن المناضلة رضية إحسان الله برزت كواحدة من أبرز المناضلات السياسيات في عدن، إذ قادت مظاهرات جماهيرية ضد المخططات الاستعمارية البريطانية، كان أبرزها الزحف الشعبي في الرابع والعشرين من سبتمبر عام 1962 نحو المجلس التشريعي، رفضًا لضم عدن إلى اتحاد إمارات الجنوب العربي. وقد اعتُقلت إلى جانب صافيناز خليفة، وأُفرج عنها بعد إضرابها عن الطعام وتدهور حالتها الصحية، ثم نُفيت إلى مدينة تعز. وفي منتصف الستينيات، ظهرت مناضلات أخريات شاركن في الكفاح المسلح والعمل السري، مثل الفدائية "ذعرة" التي خاضت معارك ضد الاحتلال وتمكنت من الهرب بعد اعتقالها.
وفي السياق ذاته، يشير الباحث جبران إلى أن النساء قدّمن أدوارًا جوهرية في مسيرة النضال الوطني، إذ شاركن في تنظيم المظاهرات وتوزيع المنشورات الثورية، وأسهمن في إخفاء الأسلحة والفدائيين داخل منازلهن، كما قدّمن لهم الطعام والماء، واعتنين بجرحاهم سرًا، كما حدث في منزل الدكتور محمد خان بمنطقة المنصورة. ولم يقتصر دورهن على الدعم الميداني، بل كنّ أيضًا محفزات ومشجعات على استمرار المقاومة، مدفوعات بإيمان عميق بعدالة القضية الوطنية وضرورة التحرر من الاستعمار.
ويشير مكاوي إلى أن من ضمن المهام النضالية التي قامت بها والدته "كانت توزيع المنشورات في شوارع عدن، حيث انتمت إلى فصيل الجبهة القومية، لكنها شاركت أيضًا في جمعية المرأة العربية العدنية إلى جانب مناضلات من جبهة التحرير، مثل رضية إحسان الله وغيرهن. وهذا يعكس أن النضال النسوي لم يكن حكرًا على فصيل واحد، بل كان فعلًا وطنيًا مشتركًا تجاوز الانتماءات السياسية".
حين تحدّت المرأة الأعراف
في ظل سياق اجتماعي تحكمه أعراف وتقاليد صارمة تجاه المرأة، جاءت مشاركة النساء في ثورة الرابع عشر من أكتوبر عام 1963 كفعل نضالي استثنائي، تخطّى القيود المفروضة عليهن، ومهّد الطريق لانخراطهن في مسارات النضال الوطني، والوعي السياسي، والمطالبة بالحقوق الإنسانية.
تؤكد رئيسة المؤسسة العربية لمساندة قضايا المرأة والحدث، حسان عبيد، أن النساء اليمنيات خضن غمار النضال الوطني في ثورة 14 أكتوبر ضمن خلايا سرية، رغم الأوضاع الاجتماعية المعقدة التي كانت تحكمها الأعراف والتقاليد الصارمة تجاه المرأة. مشاركتهن لم تكن رمزية، بل انخراطًا فعليًا في ثورة وطنية حملت أهدافًا جوهرية نحو التحرر والحقوق الإنسانية. وقد ترك هذا النضال النسوي أثرًا عميقًا في نفوس الأجيال المتعاقبة من النساء، اللواتي وجدن فيه قدوة ملهمة دفعتهن إلى المشاركة الوطنية بحماس وإيمان.
وبحسب حديث جبران، شهدت مدينة عدن في أواخر الربع الأول من القرن العشرين انطلاقة تعليم المرأة، حيث كانت الرائدة نور حيدر أول من تلقّت التعليم على يد والدها، ثم بادرت إلى تأسيس حلقة تعليمية للفتيات في حي الشيخ عثمان، مما ساهم في ترسيخ الوعي والتنوير كمقدمة لأي حركة تحرر مستقبلية. لاحقًا، برز محمد علي لقمان كأحد الداعمين لتعليم البنات، فاقترح على التاجر الفرنسي "توني بس" إنشاء مدارس للبنين والبنات في عدة مناطق.
وفي سياق متّصل، توضّح الباحثة سعاد العلس في كتابها "نساء عدن: تنوير وتحرير" كيف لعبت الصحافة والجمعيات النسوية دورًا نضاليًا محوريًا، حيث تحولت مجلة "فتاة الجزيرة" إلى منبر مقاومة استخدمته النساء للتعبير عن تطلعاتهن الوطنية والاجتماعية، متحديات القيود المجتمعية ومخاطر الملاحقة. بالتوازي، نشأت جمعيات نسوية مثل "جمعية المرأة العدنية"، التي لعبت دورًا محوريًا في تنظيم العمل النسوي، من خلال حملات التوعية، ومحو الأمية، والمشاركة في المظاهرات، وتقديم الدعم اللوجستي للمقاومين. وتُبرز العلس كيف أن هذه المنصات لم تكن مجرد أدوات اجتماعية، بل كانت جزءًا من البنية الثورية التي ساهمت في تمكين المرأة وإدماجها في مشروع التحرر الوطني.
من النضال إلى صناعة القرار
يشير الصحفي فهمي العُليمي إلى أن المرأة، رغم تعدد الثورات وتنوع أشكال الصراع المسلح في البلاد، ازدادت وعيًا وإدراكًا بما يدور حولها. فهي اليوم، كما كانت بالأمس، رمزٌ للتضحية والنضال، وصانعة للأبطال. وقد شاركت الرجل في حماية الوطن وبنائه، وأسهمت إلى جانبه في مواجهة الظلم ومقارعة الطغيان. وفي الماضي كما في الحاضر، في زمن السلم كما في زمن الحرب، سطّرت المرأة أروع صور التضحيات في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والنضالية، متجاوزة حدود المشاركة التقليدية، لتفرض نفسها كقوة تغيير فاعلة في بيئة كانت تُعدّ مستحيلة.
وفي السياق ذاته، تؤكد رئيسة مؤسسة وجود للأمن الإنساني، مها عوض، أن النساء في عدن واصلن دورهن الريادي بعد الاستقلال، وحظين باعتراف رسمي بحقوقهن وفرصهن المتساوية مع الرجل. وقد ساهم التوجه اليساري، ممثلًا بالحزب الاشتراكي اليمني، في تحقيق مكتسبات كبيرة للنساء، من بينها الوصول إلى مواقع صنع القرار، سواء بالتعيين أو بالانتخاب، ما جعل المرأة العدنية رائدة على مستوى الجزيرة والخليج.
وأفرزت هذه البيئة السياسية والاجتماعية الداعمة تشريعات منصفة، أبرزها قانون الأسرة، إلى جانب توفير فرص العمل، وتنفيذ إصلاحات اجتماعية، وتعزيز إجراءات حماية المرأة من العنف المنزلي، وتعدد الزوجات، وغيرها من الانتهاكات. كما سعت الدولة إلى تحسين الأوضاع القانونية والاجتماعية للنساء، مستفيدة من الاتفاقيات الدولية، وفي مقدمتها اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (السيداو). وتأسس اتحاد نساء اليمن في عدن عام 1960، وشكّل منصة للعمل النسوي إلى جانب اللجان الشعبية، حيث تمتعت المرأة بمشاركة سياسية واسعة في أجهزة الدولة، والحزب الحاكم، والاتحادات النقابية، والتربوية، والشبابية.
وترى مها عوض أن من المهم الاستمرار في ترسيخ أرضية مشتركة لبناء حركة نسوية متماسكة، تُعزز التعاون والتضامن، وتُعمّق الروابط بين الأجيال، بما يسهم في تقوية بنيانها وتوسيع تأثيرها الاجتماعي والسياسي.