جارتي الضحوكة..أم علي

جارتي الضحوكة..أم علي


   أم علي، جارتي الأربعينية، توفي زوجها في الحرب، تاركًا خلفه خمسةً من الأبناء. اضطرت أن تتحمل مسؤوليتهم بجلادة صبر، وأن تعمل ليلاً ونهارًا. فقدت المعيل، لكنها لم تفقد الأمل، والذي لم يكن فقط دافعًا لها للعيش، بل كان قوت أبنائها، ومأواهم، والحائل أمام عوزهم وأن يمدوا أيديهم للغير.

   جارتي أم علي تذهب إلى عملها كل يوم، وما إن أراها حتى أشعر بالرضا، فهي دائمًا ما تكون ضحوكة، حتى أصبحت مصدر أمل كبير لي وللعديد من الأشخاص. فهي تشعرنا أن الحرب، وإن استطاعت أن تقضي على الكثير في وطننا، فإنها لم تستطع أن تطأ الإيمان بداخلنا، فـ "الضربة التي لا تقتلك تقويك".

   تعمل أم علي بائعة للخضار في إحدى الاسواق، تبدأ نهارها بـقول "يا الله رضا"، وما تمر لحظات حتى يُهرع الناس إليها لشراء حزم الخضروات. ومما تجنيه، استطاعت أن تسد حاجتها وأبناءها، حتى أنها استطاعت أن توفر لهم التعليم الجيد. 

   استوقفتني كثيرًا الحياة التي تعيشها أم علي. فأنا أعمل لدى إحدى أهم الشركات، ولكنني لم أستطع أن أوفر لعائلتي الحياة الكريمة التي تطمح إليها. كثيرًا ما أسمع من أبنائي كلمات التذمر والتبرم على ما هم فيه. تساءلت كثيرًا: هل ما أنا فيه نتيجة قلة الرضا، أم هناك ما تملكه أم علي وأفتقده أنا؟

   قررت الذهاب إلى أم علي، مدعيًا أنني أريد شراء الخضروات منها ابتسمت وقُلْتُ لها : "من وين تجيبين البركة يا أم علي؟" تبسمت وقالت: "عيبك يا أبو أحمد أنك تفكر في الغد أكثر من اليوم، لذلك تشعر أنك لم تصل إلى الاكتفاء، وإن بقيت على حالك، ستظل على هذا الحال، أما أنا فأتركها على الله.

   وأكملت: استمتع بالأشياء الصغيرة، ستدرك في يوم من الأيام، أنها كانت أشياء كبيرة! ولا ترفع سقف التوقعات! لا تفكر أننا كآباء سننال الشكر في نهاية الطريق، فقد نجد التذمر والجحود. مهمتنا ليست أن نعطي ونستقبل الثناء، بل أن نؤدي أماناتنا ومسؤولياتنا بالقدر الذي نستطيع وبإمكانياتنا، وأن نغضَّ أبصارنا وآذاننا عما لا يلائم شرفنا ومكارمنا.

   شعرت  بالرضا بعد الاستماع لحديث هذه المرأة العظيمة، لقد جعلتني كلماتها أتامل في جوانب لم أفكر فيها من قبل، وقد تبدو كلماتها مفاهيم بسيطة، إلا أنها حملت في طياتها تأملات عميقة حول "دكتاتورية السعادة"، التي نقع تحت وطأتها دون إدراك!
 
   مفهوم الحياة الناجحة المبالغ فيه، والحياة بلا ظلال، والعلاقات المثالية، والنجاح التام، جميعها أوهام تُشكل تهديدًا كبيرًا على حياتنا، فعند أدنى فشل، سنشعر بالتعاسة، وسوف نصارع ونرفض نقائص يجب أن تكون موجودة في حياتنا، وهذا يؤدي بدوره إلى شعورنا بالتعب، وفقدان طاقتنا، وفي النهاية سنجد أنفسنا أكثر تعاسة!