بريشة الفن: حكاية نساء عبر العصور

بريشة الفن: حكاية نساء عبر العصور


   تعتبر المرأة مصدر إلهام كبير للفنانين عبر التاريخ، حيث شكلت موضوعًا مركزيًا في العديد من الأعمال الفنية الرائعة. تعددت الأدوار التي جسدتها المرأة في الأعمال الفنية بين الجميلة المثيرة، الأم الحنون، المحاربة القوية، والرمز الروحي. في العصر الكلاسيكي، كانت تُصور كآلهة بينما في عصر النهضة، ظهرت كشخصية محورية. وفي الفترات اللاحقة، بدأت تُصور أكثر واقعية وإنسانية مما عكس التغيرات الاجتماعية والثقافية في نظرة المجتمع إليها ودورها. في هذا المقال سنستعرض بعض الأعمال الفنية حيث مثلت فيها المرأة موضوعها الرئيس.

المرأة الغامضة:
   تعتبر لوحة الجوكندا والمعروفة أيضًا بإسم "موناليزا" للرسام الإيطالي ليوناردو دافنشي (1452-1519) واحدة من أبرز الأعمال الفنية التي جعلت المرأة محورها الأساسي، وهي واحدة من أكثر الأعمال شهرة في العالم. تُجسد هذه اللوحة المرأة بأسلوب فريد، حيث نجح دافنشي في التقاط ملامحها الغامضة بأسلوب يعكس قمة التعبير الإنساني، بلغه عصر النهضة. اللوحة لامرأة تدعى ليزا ديل وهي زوجة تاجر أقمشة ومسؤول في فلورنسا، فرانسيسكو ديل جيوكونودو وقد تم رسمها بطلب منه.
   تُفيد الرواية الأولى، أن اللوحة تصور امرأة حزينة منكسرة محرومة من حبها وتعاني من تعدد الزوجات لترفع الستار عن معاناة النساء المنسيات من قبل أزواجهن، ومواجهتهن للإهمال العاطفي والتجاهل، الذي أثر سلبًا على أرواحهن وأجسادهن. أما الرواية الثانية تصور الأم السعيدة الفخورة بمولودها الجديد، تبتسم ابتسامة غامضة، تخبئ خلفها تفاصيل الأمومة، لتصور مزيجًا من السعادة والألم، وهنا يصور دافنشي معاناة الحمل والولادة في آن واحد. وكان رسم صور النساء بعد الولادة أمرًا شائعًا في تلك الفترة كنوع من الاحتفال بالأمومة.


   ويظهر في اللوحة أن المرأة جالسة في وضعية مريحة، وهو ما يمكن أن يكون مناسبًا لامرأة وضعت مولودها حديثًا، بملامح ناعمة وبشرة نضرة، مما قد يشير إلى التغيرات التي تحدث في جسم المرأة بعد الولادة. مع ابتسامتها الهادئة كعلامة على الرضا الشخصي والفرح المرتبط بولادة طفل جديد، بالإضافة إلى ارتداءها ملابس أنيقة ووشاحًا يُغطي شعرها، مما قد يكون رمزًا للأمومة والفضيلة. في ذلك الوقت، كانت الملابس تَلعب دورًا في الإشارة إلى الحالة الاجتماعية، والأدوار الشخصية للمرأة حسب ما أفادت به بعض الدراسات العلمية، مثل التحليل بالأشعة السينية والتصوير الرقمي.

الفن الحديث: قوة المرأة في مواجهة الألم:
   مع تطور الحركات الفنية الحديثة، أصبح تصوير المرأة أكثر تنوعًا وتعقيدًا. لم يعد الهدف فقط هو الجمال المثالي، بل أصبح التركيز أيضًا على القضايا التي تهم المرأة وتعبر عن واقعها. برزت فنانات مثل فريدا كاهلو (1907-1954) هي واحدة من أبرز الفنانات في القرن العشرين، وقد اشتهرت بأعمالها التي تعبر عن هُويتها الشخصية، وتجاربها الحياتية، وقضايا المرأة. تأثرت كاهلو كثيرًا بالتراث والثقافة المكسيكية، وبرزت كرمز للنسوية بسبب طريقتها الفريدة في التعبير عن تجربة المرأة، مما أضاف بعدًا جديدًا لدور المرأة في الفن. وعالجت كاهلو في لوحاتها قضايا مهمة تتعلق بالمرأة، مثل الأمومة والخصوبة والعلاقة بالجسد. عبّرت عن تجاربها كمرأة في مجتمع تقليدي، وسلطت الضوء على التحديات التي تواجه النساء في تلك الفترة. وفي لوحتها "الإطار" صورت كاهلو نفسها مع عمود مكسور يُمثل عمودها الفقري، ويعبر عن الألم الجسدي الذي كانت تعانيه. ومن ذلك تجسد اللوحة معاناة المرأة وقوتها في مواجهة الألم. وفي لوحتها "ماجيوليا" (1940) تصور فيها شقيقتها، وتبرز العلاقة الوثيقة بين الفناة وأفراد عائلته، بالإضافة إلى الاهتمام بتصوير النساء في حياتها. وتبرز صورتها بـ"حاجبين" صراع المرأة مع الهُوية.

المرأة القوية الشجاعة في القرن التاسع عشر:
   أوجين ديلاكروا (1798-1863) هو أحد أعظم الرسامين الفرنسيين في القرن التاسع عشر، وأبرز رواد الحركة الرومانسية في الفن. اشتهر بجرأته في استخدام الألوان والتعبير العاطفي القوي في أعماله. كان للمرأة دور بارز في لوحات ديلاكروا، حيث استخدمها لتجسيد مجموعة متنوعة من الأفكار والمشاعر، من الحب والشغف إلى الحرية والقوة في أعماله. قدم ديلاكروا المرأة في أدوار مختلفة، مثل الشخصيات التاريخية والأسطورية، مما يعكس قدرته على إضفاء الحياة على موضوعاتها
   ولم يقتصر دور أوجين على تجسيد المرأة كرمز للجمال، بل أيضًا كمحارب ومثال للشجاعة، وظهر هذا في إحدى أشهر لوحاته "الحرية تقود الشعب" التي رسمها في عام 1830م، وفيها تظهر امرأة قوية وشجاعة تجسد الحرية، وتقود الناس نحو النصر. هذه اللوحة أصبحت رمزًا للثورة، وظهر فيها تصوير ديلاكروا للمرأة كقوة محركة في المجتمع. وفي لوحة نساء الجزائر 1834م، يظهر ديلاكروا نساء الجزائر في وضع الاسترخاء، وبيئة داخلية غنية بالتفاصيل. تعكس اللوحة اهتمامه بالشرق وتأثره بالرحلات التي قام بها، إلى جانب إبرازه لجمال وتنوع الثقافات

رمز الأمومة في القرن الثامن عشر:
   يوشوا رينولدز (1723-1792) كان رمزًا لتصوير المرأة في القرن الثامن عشر، حيث أبدع في تصوير بريق الصالونات الفاخرة، وجمال الحدائق البريطانية الغنّاء، ولقد استلهم نماذجه من النساء الأرستقراطيات على مدار حياته المهنية الثرية، متألقًا بحساسيته ورهافة مشاعره وهدوءه. كان رينولدز بارعًا في تصوير مختلف جوانب الأنوثة، وكان من أبرز مواضيعه الأمومة التي أضفى عليها لمسة خاصة، نجدها في أعماله تتجاوز كونها حالة من الجمال الخارجي إلى تجسيد الحنان الدائم والهدوء والسكينة.
   رسم رينولدز المرأة-الأم بوصفها منبعًا دائمًا للدفء والاهتمام، مقدمًا صورتها وهي تحتضن أطفالها، ليبين روابط العاطفة العميقة التي تجمعها بهم. وكان يعكس من خلال لوحاته الأمومة كحالة من العطاء اللامحدود والحب غير المشروط. كما أبدع في تصوير الأطفال كبراعم تحمل آمال المستقبل، مبرزًا نظراتهم البريئة والمليئة بالفضول والحيوية. كان يرى فيهم امتدادًا للأم وحضورها الدائم في حياة الأسرة، ليصور بذلك دورة الحياة واستمراريتها.
   من خلال هذه الأعمال، أضاف رينولدز بعدًا إنسانيًا عميقًا للفن، إذ لم يكتفِ بتصوير الجمال السطحي، بل اهتم بتصوير العواطف والمشاعر العميقة، مما جعل لوحاته تحتل مكانة خاصة في تاريخ الفن. تمكن من خلال تصويره للأمومة من تقديم رسالة عن أهمية الروابط الأسرية، ودور الأم المحوري في تشكيل حياة الأطفال والمجتمع.

المرأة العاشقة المتحدية:
   عندما نتحدث عن فرانسيسكو جويا (1746-1828)، نجد أن هذا الفنان الإسباني، رغم معاصرته ليوشوا رينولدز، اتخذ مسارًا فنيًا وإنسانيًا مختلفًا تمامًا. جويا لم يكن فقط أحد أعظم فناني القرن الثامن عشر، بل كان أيضًا من الرواد الذين عبروا إلى القرن التاسع عشر، مفتتحًا عوالم جديدة من الإبداع، ولقد عرف بقدرته الفريدة على تصوير المرأة الإسبانية العاشقة المتحدية، وتجلت هذه القدرة في لوحاته التي عبّرت عن المرأة بكل جوانبها الإنسانية. استطاع جويا، من خلال حبه العميق للمرأة ومعايشته لها، أن يعبر عن العمق الدافئ والحنون لشخصيتها، لتصبح في أعماله رمزًا للتوازن بين البسمة المضيئة والهجوم الساخر الذي شنه ضد فساد السلطة في مختلف مؤسساتها، بما في ذلك الكنيسة.
وكان جويا مهتمًا بتصوير المرأة من جميع جوانب حياتها ومستوياتها الاجتماعية، من البلاط الملكي حتى الطبقات الشعبية، متناولًا الأساطير التي تحيط بها. انعكست هذه الرؤية على أسلوبه الفني الذي تراوح بين النعومة المرهفة والعنف العاصف، ليشكل بذلك إرثًا فنيًا خالداً يعبر عن الروح الإسبانية المتعددة الأوجه. وفي وقت كانت فيه إسبانيا تشهد انحدارًا في الإبداع الفني، برزت روح جويا التواقة إلى التجديد والتمرد على القيود التقليدية، متألقة بالحيوية والشباب. اختار جويا أن يحمل السيف أو الريشة ليعبر عن إسبانيا بكل ما فيها من غموض وتنوع، ليرسم صورة البلد بتعصبها الديني من جهة، واحتفالاتها الشعبية النابضة بالحياة من جهة أخرى. كان جويا فنانًا ثوريًا بكل معنى الكلمة، مستلهمًا من الألوان الصاخبة والملامح المشرقة للثقافة الإسبانية، سواء في البلاط الملكي أو في الشوارع المكتظة بالناس.

المرأة الباكية:
   بابلو بيكاسو (1881-1973) هو واحد من أكثر الفنانين تأثيرًا في القرن العشرين، وقد عرف بتطويره أسلوب الكوبيزم، بالإضافة إلى العديد من الحركات الفنية الأخرى. كانت المرأة موضوعًا محوريًا في أعماله أيضا، حيث ظهرت في لوحاته بأشكال متنوعة ومعقدة، تعكس علاقته الشخصية والمهنية معها، بالإضافة إلى رؤيته الفنية والفلسفية. وكثيرًا ما كانت لوحاته تعبر عن مشاعر معقدة وصراعات داخلية، حيث كان يستخدم الوجوه والأجساد النسائية لتجسيد هذه العواطف. كانت علاقته العاطفية مع النساء تؤثر بشكل كبير على أعماله، مما أدى إلى تصويرهن أحيانًا كرموز للقوة أو الضعف أو الألم. و تعبر لوحة "المرأة الباكية" (1937) عن الحزن والألم من خلال تصوير امرأة تبكي، وتعد من أبرز الأعمال التي تجسد التعبير العاطفي، ولوحة "غيرنيكا" (1937) على الرغم من أنها ليست لوحة تركز فقط على المرأة، إلا أنها تصور نساء في حالة من الفزع والاضطراب، مما يبرز تأثير الحرب عليهن والمعاناة التي يوجهونها.

   وختامًا، نخلص إلى أن العلاقة بين المرأة وريشة الفنان(ــة) علاقة معقدة وعميقة، تعكس تفاعلاً مستمرًا بين الفن والواقع الاجتماعي، وإما كانت ملهمة موضوعًا أو فنانة، تظل جزءًا لايتجزأ من تاريخ الفن، مما يجعل من الصعب تصوره بمعزل عنها.

 ريم الربيعي