أدب الحب في كتاب طوق الحمامة
أدب الحب في كتاب طوق الحمامة
اَكتشف السفير الهولندي لدى البلاط العثماني ليفينزس وارنر، المتتبع للمخطوطات العربيّة، كتاب "طوق الحمامة" للفقيه والعالم ابن حزم (٩٩٤-١٠٦٤م)، أكبر علماء الأندلس، وأديبها العظيم. يُعد التوليف أحد أكثر الأعمال العربيّة رَصانة في الحب والعاطفة، ويُدرج لدى النقاد والدارسين في خانة النفائس، التي لا تزال تُدرس وتُقرأ حتى يومنا هذا. نُشر في أوائل القرن التاسع، وتُرجم إلى عدة لغات، ومنها الفرنسيّة والألمانيّة. قَدمَ "طوق الحمامة" وصفًا واقعيًا للحب، ومعانيه وأسبابه وأعراضه، وما يقع فيه وله "على سبيل الحقيقة لا متزايَّدًا ولا مفننًا"، من منظور إنساني تحليلي، وكان هذا النوع من الكتابات الأدبيّة نادرًا في ذلك الوقت.
تَناول ابن حزم "أدب الحب" في أرقى معانيه، بَدأ حديثه عن ماهيته، بقوله: ”الحب – أعزك الله – أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن تُوصف (...)". ثم أشار إلى أنه ليس بمحظور في الدين الإسلامي، فقد أحب بعض الخلفاء والأئمة المسلمين، لكنه لم يذكر أي تفاصيل عنهم للحفاظ على حُرمتهم. ويرى أن الحب اِتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذا الكون، وأنه يشمل عدة أنواع، كالقرابة والألفة والصُحبة، وتزيد وتنقص بتغير أسبابها. والحقيقي منها لا ينتهي إلا بالموت وترك الآثار العميقة.
وأوضح ابن حزم أن من لا يَحب لديه حجب طبيعيّة تمنعه من إدراك الاِتصال الكامل، وأن الجذب والانجذاب بين المتحابين يُشبه "جذب المغناطيس للحديد". وتطرق بعد ذلك إلى الحديث عن علامات الحب كإدمان النظر للمحبوب والتواصل معه، وأدب التواصل بالقول والكتابة، وأهمية كتمان سر الحب مقابل إذاعته، ثم اختتم بعده مسائل، مثل الطاعة والوصل والهجر.
يُشير أدب الحب في "طوق الحمامة" إلى العاطفة والرحمة التي حملها ابن حزم للمرأة، حيث أظهر عاطفته تجاهها، بجرأة لم يسبقه فيها أحد من الفقهاء في العالم الإسلامي، واظهرها بصورة المتعلمة والمعلمة والشاعرة والعفيفة والوفيّة، التي تستحق أن يُبكيها الرجل، بل أن يموت أسفًا عليها إذا فارقها؛ حيةً أو ميتة. وقبل ذلك كان من أوائل الفقهاء الذين أنصفوها، واجازوا أن تتولى القضاء، وأكد على مساواتها بالرجل في حدود تخصصها، وقد أدى موقفه منها إلى تحسين مكانتها في الأندلس.
وربما تعود أسباب العاطفة التي حَملها ابن حزم تجاه المرأة إلى نشأته، حيث نشأ في بيئة حافلة بالنساء اللاتي اعترف بفضلهن، قائلاً: "لقد شاهدتُ النساء، وعلمتُ من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري؛ لأني رُبيت في حجورهن، ونشأتُ بين أيديهن ولم أعرف غيرهن، ولا جالستُ الرجال إلا وأنا في حد الشباب، وهُنّ علّمنني القرآن، وروّينني كثيرًا من الأشعار، ودرّبنني في الخط، ولم يكن كدّي وإعمال ذهني مذ أول فهمي، وأنا في سن الطفولة جدًا، إلا تعرّف أسبابهن، والبحثُ عن أخبارهنّ، وتحصيل ذلك".
بهذا نكون قد تعرفنا على مدى عمق وجرأة الأفكار التي قَدمها ابن حزم في "طوق الحمامة"، التي جَسدت أدب الحب بكل تفاصيله وأدقّ مشاعره بطريقة تحليليّة وواقعيّة، ليكون بذلك أحد أبرز المنارات الحضاريّة في تاريخ الفكر العربي الإسلامي.