لم أخلق نفسي، ولم أختر لوني!

لم أخلق نفسي، ولم أختر لوني!
كتبت/ ريم درويش
كان مجموعة من الفتيان، لا يتجاوز عمر أكبرهم الخامسة عشرة، مجتمعين في أحد أركان الحيّ، يتبادلون الضحكات والحديث، ويلعبون ببراءة الصغار وضجيجهم المعتاد.
وفجأة، اقترب منهم فتى في مثل أعمارهم، قادم من الحارة المجاورة. كان أسمر البشرة، أجعد الشعر، ووجهه يحمل شيئًا من الطيبة والانكسار. ما إن خطا نحوهم، حتى بدأت نظراتهم تتبادل السخرية، كأنما هو مشهد مكرّر لا يملّونه.
ضحك أحدهم بتهكّم وقال:
– ألا تفهم بعد؟ نحن لا نرغب بوجودك، لا في لعبنا ولا في حديثنا!
وتقدّم آخر بوجه متجهّم وأضاف:
– ابتعد عنا، فنحن لا نجالس من هم مثلك!
وانفجر الجميع ضاحكين، بصوتٍ عالٍ يملؤه الاستخفاف، كأنهم وجدوا متعةً في كسر قلبه، واستهزاءً في اختلافه.
وقف الفتى للحظة، ثم أدار ظهره بصمت. كان يمشي بخطواتٍ ثقيلة، ورأسه منحنٍ نحو الأرض، ودمعةٌ وحيدة انسابت على خدّه، تحمل وجعًا أكبر من عمره.
تمتم بصوتٍ خافت، كأنما يناجي قلبه المكسور:
– لم أخلق نفسي، ولم أختر لوني… لماذا يسخرون من خَلْق الله؟
ثم رفع بصره نحو السماء وهمس بألم:
– يا رب، لماذا خلقتني هكذا؟ إنني أتألم من الناس، ومن قسوة نظراتهم وكلماتهم التي تجرحني كل يوم...
في السنوات الماضية، لم تكن ظاهرة التنمّر بهذا الانتشار الذي نراه اليوم. كان الناس يعيشون في سكينة، تملأ قلوبهم القناعة، لا يسخر أحدٌ من أخيه، ولا يُقصى أحد بسبب هيئته أو سجاياه.
أما اليوم، فقد أصبح التنمّر كظلٍّ يلاحقنا، يتسلل في الكلمات والنظرات، في التعليقات العابرة، وحتى في أبسط الأفعال التي قد تبدو بريئة. هذا يسخر من هيئة ذاك، وذاك يستهزئ بأسلوب حديث هذا، وآخرون يتنمّرون على نمط حياة غيرهم، وكأنهم بلغوا ذروة الكمال، وهم في الحقيقة أبعد ما يكونون عن ذلك.
إن التقليل من شأن الآخرين لا يمنح أحدًا عظمة. خِلقة الإنسان من إبداع الخالق، وحين يسخرون من خَلقٍ، فهم يطعنون في خالقه دون أن يعوا.
وإذا كان هناك شخص يعاني من صعوبة في النطق، أو شكله مختلف عن غيره، فليس ذلك باختياره. لم يخلق نفسه، والله هو من صوّره بهذه الصفة، لحكمة لا يعلمها إلا هو. فلا حق لأحدٍ في السخرية منه، ولا منطق يبرر هذا الفعل.
لقد غدا كل شيء في الحياة مادة للسخرية، حتى العقول التي كان يُفترض بها أن تُضيء الدرب، أظلمتها غياهب الجهل والسطحية. صار التعليم بلا جدوى، والتربية بلا أساس.
وعلى صعيدٍ موازٍ، تفشّت العنصرية حتى غدت سمةً ظاهرة، حيث باتت كل منطقة تستهزئ بغيرها وتقلل من شأن الآخر، بلا مبرر ولا وعي.
لم تعد مقتصرة على لون البشرة أو المظهر الخارجي، إنما امتدت لتطال الأصول والمناطق. فأصبحت كل منطقة تنظر إلى الأخرى باستعلاء، تزدريها، وتقلل من شأنها دون مبرر، وكأن الاختلاف في المنشأ مدعاة للتفوق أو الانتقاص.
فكم من أسرة غادرت قريتها الصغيرة سعيًا لحياة أفضل في المدينة، تحمل في قلبها الأمل، وفي عينيها الحياء. تبدأ بالتأقلم شيئًا فشيئًا، تسكن، تعمل، وتبحث عن مكانٍ آمن بين الناس. لكن سرعان ما يبرز من أبناء المدينة من يُنغّص عليهم طمأنينتهم، ويواجههم بعباراتٍ قاسية، مجردة من الإنسانية:
– أنت من القرية؟ لا تظن أنك ستكون منّا، أو أن لك مكانًا بيننا!
– لا وجود لك هنا، عد من حيث أتيت. وجودك عبء، وزيادة في القذارة!
هكذا، يُقصى الإنسان لا لذنبٍ ارتكبه، فقط لأنه مختلف. وكأن الانتماء لا يُقاس بالخلق والكرامة، وإنما بحدودٍ وهمية رسمها الجهل والتكبر.
فهذه الظواهر السامة يجب أن تتوقف. يجب ألا نسمح لضحاياها بأن يحملوا أنفسهم اللوم. يجب أن تنفتح العقول، رغم أننا نعيش في عصر الانفتاح والوعي.
لا أعلم متى سيحدث ذلك. لكن ما أعلمه يقينًا هو أنني أقف ضد هذه الظاهرة، ومن المفترض أن يقف الجميع ضدها، ويرفضوا أن يكونوا جزءًا منها، ويؤمنوا بأن الاحترام هو جوهر إنسانيتنا.