المسرح التعليمي: كيف يصنع الفن التغيير في عالمنا؟

المسرح التعليمي: كيف يصنع الفن التغيير في عالمنا؟

    

المسرح التعليمي: كيف يصنع الفن التغيير في عالمنا؟

   هل يمكن للمسرح أن يحمل رسائل تعليمية عميقة دون أن يفقد جاذبيته؟ وهل يستطيع أن يقدم موضوعات جادة وذات قيمة دون أن يصبح ثقيلاً أو مباشراً؟ وهل يمكنه أن يبقى فناً صادقاً وعميقاً، محافظاً على ألقه الأدبي والفني، دون أن يتحول إلى درس في الأخلاق أو الاقتصاد أو السياسة؟

   المسرح التعليمي، كما يبدو من أسمه، يسعى إلى غرس أفكار ومفاهيم محددة في ذهن المشاهد، ويهدف إلى إلهامه بتحقيق تغيير ما في الواقع، وهذا فق رؤية بريخت. لكن، حين نصف مسرحية بأنها "تعليمية"، كأننا نحكم عليها بالجمود؛ فكم من الناس يرغب في أن يجد نفسه في "درس" حتى لو كان على كراسٍ مريحة في مسرح أنيق؟ المسرحية التعليمية، بطبيعتها، تسعى لتقديم رسالة أو الترويج لفكرة، وغالباً ما تفقد هنا حس المرح أو البساطة، بل قد تضفي على كاتبها هالة "المتفوق عقلياً"، وكأنه يقف ليقدم للناس النصائح، ما قد يبعدها عن جوهر الفن المسرحي.

بريخت والمسرح التعليمي
    يقال إن بريخت اختار المسرح التعليمي لنشر أيديولوجية جديدة تبناها بعد تعمقه في دراسة الماركسية والاقتصاد بين عامي 1927 و1930، ولا شك أن تأثير هذه الأفكار يظهر بوضوح في مسرحياته التعليمية. لكن إذا ما نظرنا إلى كتابات بريخت، ينرى شغفاً نادراً، وقوة أخلاقية مميزة قادته لتوجيه الفن المسرحي نحو رسالة تعليمية. كان بريخت يدرك كل كلمة يخطها، ويأمل أن يصبح المسرح وسيلة ثقافية قوية تخدم المجتمع بمتعة ومعرفة، ليكون جسراً بين الترفيه والتعليم، ووسيلة ثقافة تخاطب الجماهير مباشرة.

   ويرى بريخت أن المسرح أصبح مساحة تثقيفية تحمل هموم العالم: النفط، التضخم، الحرب، الصراع الطبقي، العائلة، والزراعة، وكلها موضوعات تتردد أصداؤها على خشبة المسرح. فقد صار ميداناً للفلاسفة الذين لا يسعون فقط لفهم العالم، بل لتغييره أيضاً، ليغدو المسرح نافذة للوعظ والأسئلة العميقة، ولكن إلى أين تتجه هذه الخشبة؟

   لطالما كانت التسلية هدفاً للمسرح، لكن بريخت يسأل: هل يمكن أن يتمازج العلم والفن، وأن يرقى المسرح بالمعرفة دون أن يفقد متعته؟ فالفن الحديث لم يعد منفصلاً عن العلم، بل يقف على إنجازاته؛ بدءاً من تقنيات الإضاءة المتقدمة وآليات العرض، وصولاً إلى استلهام العلوم في تحليل الشخصيات والأفكار، كعلم النفس، لتشريح دوافع الأفراد، أو علم الاقتصاد لتصوير أحوال المجتمعات.

   ويؤكد بريخت أن المسرح الحقيقي يستمد قوته من مزج المتعة بالمعرفة، وأن الأعمال الفنية التي تتضمن قدراً من العلم تكتسب بعداً جاذباً، يلامس عقول الناس وأرواحهم. لكنه يشير إلى أن صدى هذا التعليم ليس واحداً للجميع، فبين من يرون العالم كتلة صلبة لا تتغير، وبين من يلهثون وراء المعرفة، والمدركين أن ضياعهم مؤكد إن لم يتعلموا، تظهر اختلافات في الأمل والسعي نحو الفهم.


مسرحية "القروش الثلاثة"
   وفي هذا المسرح، تتنوع أشكال التجريب؛ فقد شهد المسرح الأوروبي مسيرة طويلة من التجارب التعليمية والتسلية، لكن التجارب التي تتوجه للتعليم تبدو وكأنها تمنح نوعاً من السعادة العميقة في النضال من أجل الفهم. وفي سؤال بريخت الأبدي عن العنصر المشترك بين العلم والفن، تتجلى فكرته بأن العلم يمكن أن يحمل من المتعة بقدر ما يحمله المسرح، وأن الحقيقة متى ما امتزجت بروح المسرح يمكنها أن تروي الظمأ المعرفي وتخلق الترفيه الذي "لا يُنسى".

   ويضرب بريخت أمثلة من تجارب عديدة قادها عظماء المسرح مثل أنطوان، وبرام، وستانسلافسكي، وغوردون كريج، ورينهارت، وبسكاتور، حيث أضاف كل منهم للمسرح بعداً جديداً أغنى تعبيراته، مما زاد من قدرته على جذب الجمهور وتسليته. لكن على الجانب التعليمي، كان لبسكاتور دور مميز؛ فقد رأى بريخت في تجاربه قوة تعليمية عميقة، وشارك في كل منها دون استثناء، وكانت تنطوي على هدف واحد واضح: أن تحمل في طياتها رسالة معرفية ووعي ثقافي.

   سعى بسكاتور، من خلال استغلال أحدث التطورات التقنية، إلى عرض قضايا العصر في صورة فنية متجددة، متجاوزاً حدود الروتين. وتوغلت هذه التجارب في أعماق منهج المسرح، حيث أثرت على كُتاب المسرح وأساليب الممثلين، وصولاً إلى لمسات المصمم المسرحي.

   أما بريخت، فيستحضر تجربته الشخصية في مسرحيته "أوبرا القروش الثلاثة"، إذ يرى أن عناصر التعليم في العمل لم تكن مجرد تفاعل عابر، بل انعكاس حقيقي لتجربة تغلغلت فيها عناصر التنوير، متجاوزة الحدود التقليدية بين المسرح كتسلية والمسرح كمنبر للمعرفة.


التقنية الحديثة والمسرح التعليمي
   تأخذ التقنية الحديثة المسرح التعليمي نحو آفاق جديدة، لكن بريخت ينظر بعين حذرة إلى دور التمثيل في هذا المسرح. فهو يرى أن الانفعالات الجياشة على الخشبة قد تعيق تأثير الرسائل التعليمية؛ فكلما تفاعل الجمهور عاطفياً، تقل فرصته لفهم الرسائل العميقة والترابطات بين الأمور، وتنخفض قابليته للتعلم. لذلك، يفضل بريخت أحياناً الاعتماد على أداء أقل انفعالية، لأن الإفراط في التأثير العاطفي يقلل من مساحة التفكير والتأمل لدى المشاهد.

   ومع التطور المتسارع للتقنيات المسرحية، بدأت تتمازج غايات التسلية مع الرسائل التعليمية؛ فكل فكرة تحمل بعداً اجتماعياً يمكن أن تفتح عوالم جديدة للمسرح؛ عوالم تتيح للخشبة أن تكون مساحة للفن والمعرفة معاً، معتمدة على الإبهار التقني الذي يقرّب الجمهور من الفكرة، دون أن يُفقده متعة التجربة المسرحية.

دوافع ظهور المسرح التعليمي
   لماذا ظهرت المسرحية التعليمية في أعمال بريخت، وما الذي أطلق شرارتها في الأدب المسرحي عامة؟ في فترة مضطربة من تاريخ ألمانيا، حين اشتدت قبضة السلطة على قوى اليسار، وبدأت أجهزة الحكم تقمع كل فكرة تعارض أيديولوجيتها، كان المسرح مجالاً خطيراً يهدد بنشر الوعي والتغيير. لذلك مُنعت المسارح الرسمية حينها من تقديم أي عرض يعبر عن توجهات مناهضة، ما دفع الكتاب الثوريين للبحث عن متنفس جديد. وكما قال الدكتور عادل قرشولي، في ظل هذا القمع، وجد كتاب اليسار أملهم في فرق العمال المسرحية وفرق الهواة، تلك التي ضمت شباباً وعمالاً ذوي روح ثورية، مستقلين مالياً عن المسارح الكبرى، مكتفين بديكور بسيط ومكبر صوت، وأقاموا مسرحهم في الشوارع والمقاهي والمسارح الصغيرة، حيث لا تنازلات أو مساومات أيديولوجية.

   ألمانيا حينذاك كانت تعاني من أزمة اقتصادية خانقة اجتاحت أوروبا، وبدأت تداعياتها في نيويورك، وصولاً إلى إغلاق المصانع وانتشار البطالة. لقد أثارت هذه الأزمة قلق الشعب الألماني ودفعت المجتمع إلى مفترق طرق حاسم، حيث تسابق اليمين واليسار على السلطة. ومع الدعم الكبير من الرأسمالية الألمانية والدولية، تصاعد نفوذ اليمين النازي بقوة، بينما تعاون اليسار من الشيوعيين والاشتراكيين في معركة وجودية.

   وفي وسط هذا الزخم والتحولات العميقة، هجر بريخت صيغ المسرح التقليدي البرجوازي، لينغمس في تجربة المسرح التعليمي، صائغاً فناً يعبر عن واقع الناس ويؤدي رسالة ثقافية قوامها الوعي والتغيير.

   في ختام هذه الرحلة عبر عالم المسرح التعليمي كما يراه بريخت، نجد أن الفن، عندما يتحد مع الفكر الثوري، يصبح وسيلة قوية للتغيير. إن المسرح لا يُعبر فقط عن الأحداث والقصص، بل ينقل رسائل عميقة تعكس التوترات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع. ومن خلال الاستفادة من التقنيات الحديثة وتجارب الفنانين الرواد، يسعى بريخت إلى تقديم مسرح يدعو للمشاركة الفكرية ويحث على الفهم العميق للعالم.

   أثبتت المسرحية التعليمية قدرتها على تجاوز القيود التقليدية، إذ أصبحت منصة للجماهير، للتفاعل مع الأفكار والمشاعر، وإلهامهم للتحرك نحو التغيير. في النهاية، لا يقتصر دور المسرح على التسلية بل يمتد ليكون أداة للتعليم والتوعية، تجسد أمال وأحلام المجتمعات، وتدعو إلى عالم أفضل. لذا، تبقى رسالة بريخت الخالدة أن الفن الحقيقي هو الذي يسهم في بناء وعي مجتمعي ويشعل شرارة التغيير.

ريم الربيعي