بين الشاشات واللقاءات الحقيقية كيف تغير وسائل التواصل من عمق علاقاتنا؟

بين الشاشات واللقاءات الحقيقية كيف تغير وسائل التواصل من عمق علاقاتنا؟

بين الشاشات واللقاءات الحقيقية كيف تغير وسائل التواصل من عمق علاقاتنا؟

   أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي جزءًا حيويًا من حياة الشباب في العالم العربي، لا تنفصل عن تشكيل تفاعلاتهم اليومية وتنسج خيوطها علاقاتهم الاجتماعية. إنها نافذة مفتوحة على عوالم متنوعة تقرب البعيد وتجعل التواصل سهلاً وممتعًا. لكن وراء هذه السرعة والبساطة تختبئ تأثيرات عميقة ومعقدة على الروابط الإنسانية تدعونا كشباب إلى التأمل في مدى تأثيرها على روح العلاقات وعلى دفء التواصل الحقيقي الذي يتجاوز حدود الشاشات.

   صحيح أن وسائل التواصل الاجتماعي أتاحت للشباب فرصًا فريدة من نوعها للتواصل مع الآخرين، بغض النظر عن المسافات الجغرافية، والتعرف على ثقافات جديدة، والتفاعل مع مجتمعات مختلفة، وتكوين صداقات جديدة. وهذا ما يخلق تبادلًا ثقافيًا وفكريًا يشجع على الانفتاح والتعايش السلمي، وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الوسائل تحمل في طياتها القدرة على تقوية الروابط الموجودة بين الأحبة، فتجعل من متابعة الحب وتعزيز شعور التواصل بين الأفراد مهما باعدت بينهم المسافات.

   لكن هل تساءلنا يومًا عن الجانب المظلم لهذه الوسائل؟ هل تساءلنا كم مرة تمتد أيادينا نحو هواتفنا الذكية بلهفة في انتظار إشعار جديد؟ كم مرة ننظر فيها إلى الشاشة بحثًا عن رسالة أو تعليق أو إعجاب يشعرنا بالارتباط بمن هم حولنا افتراضيًا؟ 

   الإجابة بالطبع "لا"، لأننا لو تساءلنا حول هذه التساؤلات، لكان علينا أن نسأل أنفسنا مدى تأثير هذا السلوك على حياتنا وسلوكياتنا اليومية وعلاقاتنا كشباب بمن حولنا. لقد أصبحت التطبيقات مثل فيسبوك، واتساب، إنستغرام، ماسنجر... تتحكم فينا! ففي كل مرة ينظر فيها الإنسان إلى هاتفه، يفتح نافذة جديدة على عالم زاخر بالعلاقات والمعلومات، ولكنه في الوقت ذاته قد يغلق بابًا على الواقع المحيط به، فيضعف تركيزه ويجعله في دوامة توتر دائمة.

   وعلاوة على ذلك، قد يؤدي الاعتماد المفرط على التواصل الرقمي إلى خلل في التواصل المباشر الحقيقي. فنحن اليوم أصبحنا في عالم رقمي خالٍ من المشاعر والأحاسيس. نتواصل من خلف شاشات الأجهزة، حيث تختفي تعابير الوجه ونبرة الصوت الحقيقية، ونفتقد طعم العناق واللمس، وحتى الصمت الذي كان يحمل أحيانًا أصدق الكلمات.

   تُظهر تقارير استطلاع "أصداء بي سي دبليو" السنوي الخامس عشر لرأي الشباب العربي لعام 2023 أن مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يملكون في المتوسط 8.4 حسابات على هذه المنصات، ويقضون أكثر من 3.5 ساعات يوميًا على الإنترنت، وتتصدر المملكة العربية السعودية قائمة الدول من حيث استخدام منصة "يوتيوب"، حيث يستهلك 68% من المستخدمين في المملكة مقاطع الفيديو الرقمية أكثر من مشاهدتهم للتلفاز. كما تهيمن دول الشرق الأوسط على المراتب الخمس الأولى عالميًا في استخدام منصة "تيك توك"، وهي: الإمارات، السعودية، الكويت، قطر، والعراق. إضافة إلى ذلك، تعد السعودية والعراق ومصر من بين أكثر 15 دولة استخدامًا لمنصة "سناب شات".

   وفي ظل هذا الاستخدام الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي، لم يكن مستغربًا أن يسعى نحو 74% من المشاركين في استطلاع هذا العام للابتعاد عن تأثيراتها. بالإضافة إلى ذلك، أشار حوالي 61% من المشاركين إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي تؤثر سلبًا على صحتهم النفسية.

    إن مواقع التواصل الاجتماعي قد تكون وسيلة أحيانًا لخلق علاقات هشة وسريعة الزوال، إذ يجد الشباب أنفسهم في دوامة من الصداقات العابرة التي تقوم على التعليقات والإعجابات دون أن تنضج في الواقع. فيضطر البعض لعرض صور مثالية عن حياتهم، مما يزرع العزلة والقلق في قلوبهم عندما يقارنون واقعهم بالصور المصطنعة! 
   
   وفي عصر باتت فيه وسائل التواصل الاجتماعي جزءًا هامًا من هويتنا الرقمية، أصبح حساب الفيسبوك أو الإنستغرام أو غيرها من التطبيقات أكثر من مجرد ملف شخصي. إنه يعكس حياتنا وذكرياتنا وعلاقاتنا. وعندما يتعطل هذا الحساب فجأة، قد يشعر الشاب بغربة لا يمكن وصفها، كأنما فقد جزءًا من نفسه في فراغ إلكتروني، فيشعر وكأن الخيط الرابط بينه وبين الأصدقاء والأحباب قد انهار فجأة. إنه الإحساس بأن الأصوات التي كانت تملأ يومه بالصخب والأنس قد تلاشت، وأن كل الذكريات التي شاركها مع غيره أصبحت عالقة في مكان لا يمكن الوصول إليه.

   وهذا الشعور الكبير بالاغتراب يرفع الستار عن عمق الالتحام بتلك المنصات وعن الفراغ الذي تتركه غيابها. فيجد الشاب نفسه محاطًا بالصمت ومجبرًا على مواجهة العالم الواقعي دون زيف، وأن العلاقات التي كان يظن أنها متينة قد تبدو في الواقع هشة أو غير موجودة من الأساس.

   في عالمنا الحالي، لم نعد نقتصر على تبادل الرسائل النصية أو إجراء المكالمات الافتراضية فقط، بل انتقلنا إلى لغة أكثر تطورًا وأقل ملامسة للأرواح. نحن اليوم نعيش في عالم حيث الكلمات أصبحت أقل أهمية من الإيموجي، وأصبح التواصل عبر "السناب شات" والرموز التعبيرية والصور هو اللغة التي نستخدمها للتعبير عن أنفسنا. وأضحت صورنا مجرد لحظات عابرة؛ كل صورة، وكل إعجاب، وكل رمز تعبيري لا يحمل في طياته جزءًا من أنفسنا، وأصبحنا نعبر عن سعادتنا بحركات بسيطة على شاشاتنا، ونشارك همومنا بأيقونات تعكس حالتنا النفسية، وأحيانًا نبحث عن الدعم في تفاعل بسيط مثل "الإعجاب" أو تعليق محفز.

لكن في خضم هذا الزخم الرقمي، متى نبدأ في إدراك أن هذه الرموز ليست بديلًا حقيقيًا للتواصل الإنساني العميق؟

   ففي حين يمكن للصور والإعجابات أن تعكس جزءًا من تجربتنا، إلا أنها تظل مجرد ظلال لما هو أكثر عمقًا. تشبه هذه الرموز نجوماً تتلألأ في سماء التواصل، لكنها لا يمكنها أن تملأ الفراغ الذي يتركه غياب المحادثات الوجاهية والتواصل الفعلي. ويعكس سعينا نحو التحرر من تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي رغبتنا في العودة إلى جوهر العلاقات الإنسانية، إلى حيث يمكننا أن نتبادل الأفكار والقصص والنظرات الحقيقية.

   وأخيرًا، يبقى الإنسان بحاجة إلى لمسة حقيقية، إلى حديث صادق وعناق دافئ بعيدًا عن الشاشات والرموز التي قد تظل عاجزة عن نقل عمق الروح والإنسانية.

    والآن، أخبرني: متى كانت آخر مرة جلست فيها مع صديق، وتبادلتما الأحاديث وجهًا لوجه، بينما كنتما تستمتعان بفنجان قهوة؟


ريم الربيعي