الفَنّ والتطورات التكنولوجيّة

الفَنّ والتطورات التكنولوجيّة

الفَنّ والتطورات التكنولوجيّة

  

   منذ القدم، كان للأدوات والخامات البدائيّة دور مهم في إلهام الفنانين وتمكينهم من إنشاء لوحات الكهوف والمنحوتات، بما في ذلك تمثال"فينوس" في أوروبا، أقدم التماثيل الجسديّة، ويعود تاريخها إلى (29000-25000) ق. م. وعبر العصور، شَهدت العلاقة بين الفَنّوالتكنولوجيا تطورًا مذهلاً، حيث أحدث اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر ثورة في انتشار الأعمال الفنيّة، فيما جلبت الثورة الصناعيّةتقنيات جديدة كالتصوير الفوتوغرافي، والذي غيّر مفاهيم التمثيل والتعبير الفني.

   في السنوات الأخيرة، مكّن التطور التكنولوجي الفنانين من تحقيق قفزات نوعيّة، فقد سهّل وصولهم إلى مختلف الوسائط الفنيّة، وأتاح لهمعرض أعمالهم على نطاق أوسع، متجاوزين قيود المساحة الماديّة والجغرافيّة. كما مكّنهم من الاستفادة من تقنيات متقدمة كالرسم الرقميوالنمذجة ثلاثيّة الأبعاد والتصوير الفوتوغرافي الرقمي. وعبر تكنولوجيا البلوك تشين (Blockchain باتت ملكيّة الأعمال الفنيّة وتتبعها أكثرشفافيّة وأمانًا.

   تَطرح هذه التطورات التكنولوجيّة تَساؤلاً مهمًا حول ما إذا كانت قد عززت من الإبداع الفني أم أثرت عليه سلبًا؟

   الإبداع "النبض الحي" للتجربة الإنسانيّة، وهو كما وصفته جيردا ويندت "يُحول الحزن إلى جمال وحقيقة، ويجعل غير المرئي مرئيًا". والفنان المبدع يَنقُل شرارة إلهامه إلى أعمال فنيّة، تتوهج بشخصيته الخاصة، متجاهلاً الإنجازات والأعمال الشعبيّة المتعارف عليها. وتحقيق ذلك يحتاج إلى مهارات، يتم اكتسابها من خلال سنوات عديدة من الممارسة والتجريب، حيث يتطلب كلٌ من الرسم والنحت والموسيقى والكتابةممارسة متأنية وتأمل متعمق في داخل الفنان والعالم من حوله. وهنا تكمن روح العمل الفني الحقيقي!

   وفي ظل التقدم التكنولوجي السريع، وَجد الفنان نفسه أمام تحدٍ كبير، وهو ظهور البرامج الرقميّة الحديثّة، أبرزها (مولدات الذكاءالاصطناعي) التي تقوم بإنتاج الأعمال الفنيّة، بسهولة وأكثر سرعة، وهذا قد يجعل الفنان يقع في خطر السطحيّة، حيث تفتقد هذه الأعمالللجوهر الإنساني الذي يُعطي الفَنّ عمقه ومعناه. فعلى الرغم من قدرة الذكاء الاصطناعي على تَعلُم وإعادة إنتاج الأنماط والأشكال الفنيّة،إلا أن مخرجاته تفتقر إلى ما يميز الفَنّ البشري، وهو الخبرة في الحياة، والعمق العاطفي. فالذكاء الاصطناعي لا يمكنه الشعور بالخوف أوالحب أو الفرح أو الألم! وبدلاً من ذلك، يقوم بتحليل البيانات وإعادة إنتاج الأنماط الموجودة والأكثر شيوعًا، دون حتى فهم حقيقي لمعناها. وهذا يؤدي إلى تَشابه جميع الأعمال الفنيّة أو اتباعها لنفس الاِتجاهات، وتهديد الأصالة والتنوع الذي يثري المجال الفني.

     الفَنّ ليس مجرد تقنيّة أو مهارة؛ إنه متجذر بعمق في إنسانيتنا ووعينا وعواطفنا، وسواءً كان قطعة موسيقى تُطربنا، أو لوحة تُبهرنا، أورواية تنقلنا إلى عالم آخر، فإن لديه القدرة على تحريك مشاعرنا وإثارة فكرنا، وربطنا بمن يُمارس الفَنّ، ومنحنا لمحة عن عقله وقلبه! لذا، علىالفَنّان أن يَتحلى بحكمةً وتدبر، ليجد التوازن الأمثل بين الاِستفادة من التقنيات الحديثّة وتمسكه بروح الإبداع الذي بداخله، فالتكنولوجياليست عدو الفَنّ، بل هي أداة لتمكين الفَنّان من التعبير بطرق جديدة ومختلفة، إذا ما أحسن استخدامها، وأدرك حقيقة «أن كل ما يأتيعلى عجل يمضي سريعًا»!