ترهيب الأطفال من الأطباء: عقدة نفسية تؤثر على صحة الأجيال
ترهيب الأطفال من الأطباء: عقدة نفسية تؤثر على صحة الأجيال
"إن لم تهدأ، سنأخذك للطبيب" هذه العبارة ترفع الستار عن العلاقة المضطربة التي يرسمها الأولياء لأبنائهم عن الطبيب. على الرغم من أن مهمة الطبيب الأساسية هي مساعدتنا في التخلص من آلامنا، فإن استخدام هذه العبارات يجعل الطبيب مصدراً للخوف لدى كثير من الأطفال، مما يترك أثراً سلبياً في نفوسهم قد يمتد حتى بعد أن يصبحوا شباباً. فلنكتشف معاً رحلة الخوف من الأطباء التي تبدأ من الطفولة وتستمر حتى الممات.
تُعتبر عقدة الخوف من الأطباء متأصلة في أعماق كل منا، وغالباً ما يكون مردها إلى عبارات الترهيب مثل "إن لم تأكل طعامك، سنأخذك للطبيب" أو "إن لم تكن هادئاً، سيعطيك الطبيب دواءً". في ثقافتنا، تُستخدم هذه العبارات لمواجهة عناد الطفل وضبط سلوكه، ولكنها بطريقة غير مباشرة تزرع في ذهن الطفل فكرة أن الطبيب هو رمز للعقاب وليس للمساعدة. وهنا، تكون النتيجة واضحة: يكبر ذلك الطفل ليصبح شخصاً مستقلاً ومسؤولاً، لكنه يحمل معه شعور التوتر عند زيارة الطبيب حتى في أكثر الحالات الصحية جدية، فيفضل تجاهل الفحوصات الدورية وطلب الرعاية الجسدية والنفسية، مما يؤدي بالضرورة إلى تفاقم المشكلات الصحية.
عندما يتم ترهيب الطفل، فإنه لا يتعلم الخوف فقط من الشخص الذي يرتدي الزي الأبيض، وإنما يتعلم أيضاً التشكيك في النظام الصحي برمته، فتكون الثقة شبه منعدمة في العلاجات وحتى المستشفيات. وقد ظهر هذا جلياً خلال جائحة كورونا، حيث لاحظنا عزوفاً واضحاً من بعض الشباب عن التلقيح بحجة عدم فائدته والخوف من تأثيراته. حتى إن من قام بالتلقيح مرة، لا يواصل عدد اللقاحات المحددة، وهو نفس الشيء الذي حدث مع مرض داء الكلب. نجد أن هؤلاء يصدقون الشائعات أكثر من المعلومات الطبية الصحيحة. فكم من مرة سمعنا عن مرضى هربوا من المستشفيات خوفاً من حقنة مؤلمة أو إجراء عمليات جراحية دقيقة، وهؤلاء هم أنفسهم الذين كانوا يملؤون العيادات الطبية صراخاً وعويلاً في صغرهم.
ولعل أكثر اختصاص طبي يُنفر منه الأطفال هو طب الأسنان، حيث يكون مصدر الرعب عادةً خوفاً من قلع ضرس أو استعمال آلة حفر داخل الفم، وهذا يعود بالطبع إلى الأهل الذين يلجؤون إلى هذا الأسلوب كوسيلة لإسكات الطفل.
في الحقيقة، نجد أن بعض الأطباء يؤكدون توقعات الأطفال السلبية تجاههم. فممارسة الطب تتطلب خبرة وحكمة في معاملة المرضى، خاصة الأطفال الذين يحتاجون إلى معاملة خاصة ترتكز بالأساس على كسب ثقتهم وبث الطمأنينة في أنفسهم. من المهم التودد إليهم بقطعة حلوى قبل بدء العلاج، حتى يشعروا بالراحة النفسية. كما يمكن تزيين العيادات الطبية بألعاب متنوعة، ليشعر الطفل كأنه في بيئته الطبيعية. ومع ذلك، يفتقر بعض الأطباء إلى هذه الأساليب حتى في عصرنا الحالي، رغم أن العلاج يكون نفسياً بالأساس.
فمتى تتحول أقسام مشافي الأطفال في بلداننا العربية إلى مساحات للاحتفال بأعياد الميلاد وصالات للألعاب، ليتناسى هؤلاء المرضى آلامهم بالمحبة والعطف؟ ومتى يسعى الأهل إلى تعليم أطفالهم أن الطبيب هو صديق الصحة، وأن بعض الإجراءات الطبية قد تبدو غير مريحة لكنها ضرورية لحماية الجسم؟
من المهم أن يتحلى الأهل بالصدق عند تحضير الطفل لزيارة الطبيب، خاصة عندما يتعلق الأمر بإجراء فحوصات هامة، بدلاً من محاولة تهويل الأمر. يمكن القول: "قد تشعر بوخزة صغيرة، لكنها ستساعدك على الحفاظ على صحتك"، واستبدال عبارة "إن لم تأكل، سنذهب إلى طبيب" بقول "إن لم تأكل، ستمرض وتضطر للذهاب إلى الطبيب"، وهي خطوة أكثر حكمة وإنسانية في التعامل مع الطفل. فهذا التغيير في الأسلوب يرتكز على التوعية بدلاً من الترهيب، ويرسخ فكرة الرعاية الذاتية.
تُرسخ هذه المقارنة في ذهن الطفل أهمية الحفاظ على صحته، وتجعل منه شخصاً واعياً يدرك أن الطبيب جزء من الشفاء ويعمل جاهداً للتفكير بمسؤولية تجاه جسده.
وأخيراً، يجب أن يدرك الأولياء أن عباراتهم لها أثر عميق على تفكير أطفالهم تجاه الأشياء، مما يؤثر بشكل كبير على خياراتهم الصحية في مرحلة البلوغ. فإذا ترعرع الطفل وهو يحمل مشاعر سلبية تجاه الأطباء، فقد يتردد في طلب الرعاية الصحية حتى عندما يكبر، مما يعرض صحته للخطر. لذلك، من الضروري اللجوء إلى وسائل تربية أخرى تتماشى مع الطفل لينشأ بسلوك جيد.
ريم الربيعي