هل يستطيع الفن تغيير العالم الذي نعيش فيه؟

هل يستطيع الفن تغيير العالم الذي نعيش فيه؟

هل يستطيع الفن تغيير العالم الذي نعيش فيه؟


   الفَنّ امتداد للتعبير الإبداعي والأفكار والتجارب، وفي جميع أشكاله يعكس قيم وثقافة المجتمع المتغيرة باستمرار، لذا لا يمكن اعتباره أداة عادية، بل هو كما وصفه ثيودور درايزر "العسل المخزن في الروح البشرية"، من خلاله يمكّننا العثور على أنفسنا وفقدانها في الوقت نفسه! والفن يُقدم دور لا غنى عنه في تغيير حياة الناس، حتى وإن كان على نطاق محدود، فهو يمنح صوتًا لمن لا صوت له، ويشكل أداة أساسية لإحداث التغيير الاجتماعي والسياسي، إذا ما تم توجيهه في الاتجاه الصحيح! واعتبارًا من ذلك إذا ما أردنا أن نُعرف الفَنّ، لا يسعنى إلا أن نستحضر ما قاله نجيب محفوظ "هو مرآة تَعكس الواقع، ولكنه في الوقت نفسه أداة للتغيير"، وما جرى على لسان ماريا عند حديثها مع ديب في مسرحية ''ناس من ورق''، ''الكلمة عالمسرح بتوصل عالقلب بتهدر بتضج وبتغيّر''.
   وفقًا لكتاب (الموسيقى والعدالة الاجتماعية) لتريسي نيكولز، ترتبط الموسيقى الشعبية ارتباط قديم بقضايا العدالة الاجتماعية، مثل الحرب وحقوق الإنسان، وتأكيدًا على ما ذهب إليه تريسي، لنا أن نَذكر هنا مثالين على أغاني تمكنت من إحداث تغيير اجتماعي. الأول أغنية الاحترام (Respect) لأريثا فرانكلين، الصادرة في 1967، والتي أصبحت نشيدًا حقوقيًا، يُطالب بالاحترام والمساواة للنساء والأمريكيين من أصل أفريقي، ورمزًا للتمكين والتغيير الاجتماعي. وأغنية تخيل (Imagine) لجون لينون، الصادرة في عام 1971، والتي ألهمت المستمعين إليها لتصور عالم خالٍ من الصراع والانقسام، حتى عُدت رمزًا للسلام العالمي. 
   وعند الحديث عن المسرح وقدرته على إصلاح (ما يمكن إصلاحه) عند انهيار الأمور لابد أن نُشيد بدور فرقة مسرحية "زقاق" التي أنشئت في بيروت عام 2006، على يد مجموعة صغيرة من الكُتاب المسرحيين والمخرجين والممثلين، بهدف معالجة الوضع الذي أنتجته حرب تموز. قدمت الفرقة دورًا مهمًا في الحياة الثقافية والسياسية للبلاد، وكان لها شَكلها الفني الخاص، وطموحها لم يكن إنتاج العروض بقدر التفكير في ممارسة الفن وتطوير أدواته، ومناقشة الموضوعات التي يراد معالجتها. أنتجت زقاق العديد من العروض في لبنان وخارجها، والمدهش أنها نظمت ورش عمل للعلاج بالدراما، وقدمت تدريبات للفنانيين الناشئين. ولقد شكل العمال المهاجرون واللاجئون وغيرهم من المهمشين جزءًا من برامجها. 
   ولابد من الحديث أيضًا عن مسرح "تعارفوا"، أُطلق عام 2015 في طرابلس لبنان، ويجمع بين الشباب من خلفيات متنوعة، ليمنحهم مساحة آمنة لمشاركة قصصهم، وكسر الحواجز النمطية، وتفكيك الأحكام المسبقة، بهدف تعزيز التفاهم بينهم ومعالجة أي مظالم سياسية أو اجتماعية، وهذه التجربة تُساعد على فهم "الآخر" بعيدًا عن الأفكار المتحيزة والنمطية. لذلك من الطبيعي أن تُعد مثل هذه المسرحيات أداة لبناء السلام وتحقيق المصالحة والتعايش بين جميع مكونات المجتمع، ويمكننا تخيل ذلك عندما يجتمع مجموعة من الشباب من خلفيات ومناطق مختلفة للتعرف على بعضهم البعض والتمثيل على مسرح واحد! 
   تُعد تجربة حوار في الظلام Dialogue Social Enterprise)) لأندرياس هاينيكس، أبرز التجارب التي تحدت تصورات المجتمع للعمي، وهي عبارة عن عملية محاكاة تتم من خلال تبادل الدور بين الشخص الكفيف والمبصر، حيث يقوم الأخير بالمشي في غرف مظلمة، مستخدمًا حواسه والعصا، بمساعدة مرشد كفيف أو ضعيف البصر. ظَهرت الفكرة عام ١٩٨٩ في مدينة هامبورغ الألمانية، ولقد انتشرت في العديد من الدول ومن بينها مصر، وهي تهدف إلى رفع الوعي بأهمية منع التمييز وتعزيز دمج الأشخاص ذوي الإعاقة في المجتمع، وتغيير النظرة السلبية عنهم من خلال استبدال شعور التعاطف والتهميش نحوهم إلى محاولة التعايش معهم.
   وليست الموسيقى والمسرح والمحاكاة الوحيدة التي تمتلك القوة على الإلهام والتأثير الاجتماعي، فهناك أيضًا الدراما بأشكالها المختلفة، والرسومات، والجداريات، والصور الفوتوغرافيّة، والرقص، والأزياء، وأي شكل من أشكال الفنون له القدرة على التعبير عن آراء الناس وقيمهم وتوجهاتهم بطريقة ذات مغزى وهدف، ومن الأمثلة الرائعة على ذلك أعمال الرسامة الفرنسية ماليكا فافر، التي عكست قضايا اجتماعية مختلفة، ومنها تمكين المرأة. والصور الفوتوغرافية للأذربيجانية رينا أفندي، التي نقلت من خلالها مدى تأثر المجتمعات الهشة بالعولمة، ولقد تجاوزت أعمالها حدود المكان والجغرافيا، حيث قامت في ٢٠٢٠ بسرد قصة رجل سوري في العقد الخامس من العمر، حارب لإنقاذ أحفاده في سوريا، الذين لم يقابلهم قط.
   ولا يمكننا عدم ذكر الأعمال الجدارية لشيبرد فيري التي تدعو إلى الأمل والتقدم، وبانضمامه إلى مشروع أطلقوا صوت غزة (Unmute Gaza)، أعاد تمثيل عدد من الصور المروعة التي خرجت من قطاع غزة، للفت الانتباه إلى الظلم الذي يحدث فيها. واستطاع المشروع اجتذاب حركة Art in Ad Places في ولاية فيلادلفيا؛ والتي وضعت صورًا لما يحدث في غزة على مواقف الحافلات في منطقة سنتر سيتي في الولاية الأمريكية.
   بالعودة إلى سؤالنا  "هل يستطيع الفَنّ تغيير العالم الذي نعيش فيه؟" يمكننا الإجابة بالتأكيد، فهو يمتلك القدرة على تغيير الطريقة التي نرى بها العالم، وعلى تحريكنا، وإلهامنا للعمل، وتحدي تصوراتنا النمطيّة. وهو يجعل الناس أكثر اتصالاً ببعضهم البعض. ويمكن استخدامه للكشف عن قصص وواقع المجتمعات المهمشة، واعتباره منصة لسماع أصواتها. ويمكن للفَنّ أن يزيد الوعي بالقضايا الاجتماعيّة وتعزيز الشعور بالقبول، وهو قادر على إحداث التغييرات الثوريّة في المجتمع. وإذا كان العمل الواحد قادر على إحداث التغيير على النطاق بسيط والمحدود، فإن مجموعة الأعمال القائمة على أهداف مشتركة، لها إمكانية التأثير على النطاق الأوسع. فقط ما علينا فعله هو أن نتمكن من العثور على تقدير حقيقي لجمال العمل الفني، تقدير له القدرة على تخطي قيمته المادية، في مقابل الاهتمام بتمثيل هُوياتنا وقيمنا الفرديّة.