عندما تصمت الكتب الورقية في عالم رقمي سريع الخطى

عندما تصمت الكتب الورقية في عالم رقمي سريع الخطى

عندما تصمت الكتب الورقية في عالم رقمي سريع الخطى

   في عصر يَتسارع فيه نسق الحياة وتتنوع فيه وسائل الإعلام والتواصل، يجد الكِتاب نفسه مهمشًا، خاصةً بين فئة الشباب في العالم العربي؛ هذه الفئة التي تتجه بشكل متزايد نحو مصادر المعرفة السريعة وسهلة الاستهلاك. فالشاشات المضيئة والإشعارات المتواصلة تَستحوذ على انتباه الشباب، مقدمةً لهم المعرفة بأساليب جذابة ومبتكرة، تتناسب مع نمط حياتهم السريع. 

   وفي هذا السياق يبدو الكِتاب التقليدي بصفحاته الهادئة وحروفه الثابتة كأثر من أثار الماضي، يُصارع ليحتفظ بمكانته الثابتة كمصدر أساسي للمعرفة في عالم رقمي متحرك (في مواجهة مع الكِتاب الالكتروني المتحرك).

   ومن الطبيعي أن يَميل الشباب الذين نشأوا في عصر الإنترنت والتكنولوجيا المتقدمة، إلى استهلاك المعلومات بطريقة تختلف جذريًا عن الأجيال السابقة، حيث يفضلون الوصول الفوري إلى البيانات والأخبار من خلال نقرات قليلة على أجهزتهم الذكية بدلًا من الغوص في أعماق الكُتب والمطالعة الطويلة، خاصة وأن الكثير منهم يُعاني من ضغوط اقتصادية تحول دون قدرتهم على شراء كِتاب ورقي باهض الثمن، بالمقارنة مع المحتوى الرقمي الذي غالبًا ما يكون مجانيًا أو أقل تكلفة.

   ووفقًا لدراسة أجرتها مؤسسة "العربية للمعرفة" في سنة 2021, فإن نسبة الشباب العربي الذين يقرءون الكُتب الورقية بشكل منتظم انخفضت إلى حوالي 15% مقارنة بـ 40% في سنة 2010. وعلى سبيل المثال في مصر بينت الدراسات أن ما يُقارب من 70% من الشباب يُفضلون استهلاك المعلومات الرقمية بدلًا من الكُتب الورقية، بينما في المملكة العربية السعودية انخفضت نسبة القراءة إلى حوالي 20% بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و30 سنة. وفي تونس أيضًا شهدت نسبة قراءة الكُتب الورقية تراجعًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، مقارنةً بسنة 2010. ووفقًا لتقرير صادر عن "اليونسكو" في سنة 2021, فإن نسبة قراءة الكُتب الورقية في اليمن انخفضت إلى أقل من 10% مقارنة بنسبة 35% في سنة 2010.

   وهذا لا يعني أن الشباب اليوم لا يقرءون على الإطلاق، فهم يطلعون على التغريدات والمنشورات والكُتب الإلكترونية، ولكن عندما يتعلق الأمر بالاستقرار مع كِتاب جيد فهناك عزوف ملحوظ. ولو فكرت قليلًا عزيزي القارئ في متى أخر مرة رأيت فيها شابًا منغمسًا في كِتاب، ليس كِتابًا الكترونيًا، أو مقالًا عابرًا، بل كِتابًا حقيقيًا ملموسًا، يبدو أنه أصبح مشهدًا نادرًا أليس كذلك؟

  إن هذا التغير الذي طرأ على سلوك الشباب يُمثل نقطة تحول في عالم القراءة الورقية في العالم العربي، لقد كانت القراءة عبر التاريخ مرآة عاكسة للحضارات، ومنارة للمعرفة لكن هذه الممارسة الثمينة بدأت تفقد بريقها، وهنا نخسر أكثر من مجرد كلمات مطبوعة على ورق، نَخسر جزءًا من تراثنا الثقافي واللغوي، واللغة بكل جمالياتها وتعقيداتها التي تنمو من خلال القراءة المستمرة والمتأنية.

  للكُتب الورقية سحر خاص يَمتد إلى أبعد من محتواها النصي، لمس صفحات الكتاب ورائحة الورق المميزة يجعلان من تجربة القراءة أمرًا حسيًا لا يمكن استبداله أو الاستغناء عنه. عندما يَفتح القارئ كِتابًا ورقيًا نشعر بارتباط ملموس مع عراقة الكلمات المطبوعة والتاريخ المروي بين طياتها.

   ويَمنح الكِتاب الورقي للقارئ إحساسًا بالملكية، فيمكنه من تحديد تَقدم قراءته بصريًا وحسيًا، مما يخلق بداخله شعور الرضا عند إتمامه، فيُصبح بذلك صديقًا يهتم بكل تفاصيله، بدءً من تصميم الغلاف إلى نوعية الورق. ففي عالم رقمي سريع الخطى، يُعد الكِتاب الورقي ملاذًا هادئًا، يُحلق بالقارئ إلى عالم الخيال، بعيدًا عن الشاشات، فهو ليس مجرد وسيلة لنقل المعلومات، بل هو الصديق الذي يحمل ذكريات لا تُنسى!

   وختامًا، يَبقى الكِتاب الورقي شاهدًا على تاريخ طويل من المعرفة والثقافة. ورغم التحديات التي يواجهها في عصر الرقمنة، إلا أنه لا يمكن إنكار القيمة العميقة التي يَحملها. قد يكون العالم الرقمي سريع الخُطى قد غير من طرق استهلاكنا للمعلومات، لكن الكُتب الورقية تظل تحمل في طياتها جمالية لا تضاهى. إنها تدعونا للتأمل والغوص في أعماق الفكر بطريقة لا يمكن للشاشات اللماعة أن توفرها. ومع ذلك، يجب ألا ننظر إلى هذا التحول كخسارة مطلقة، بل كفرصة لإعادة اكتشاف القراءة وتقديرها في أشكالها المتعددة. فلنعمل معًا لضمان أن يظل الكِتاب، سواء كان ورقيًا أو رقميًا، جزءًا لا يتجزأ من حياتنا، محافظين على تراثنا الثقافي ومواكبين للتطورات التكنولوجية التي تحيط بنا.

ريم الربيعي