رمضان في اليمن: تقاليد اجتماعية ودينية تميزنا وتجمعنا

رمضان في اليمن: تقاليد اجتماعية ودينية تميزنا وتجمعنا

رمضان في اليمن: تقاليد اجتماعية ودينية تميزنا وتجمعنا

أمل السبلاني 

ها هو رمضان على الأبواب، الشهر المُقدّس الذي ينتظره جميع المسلمين حول العالم، من اليمن إلى العراق ومن الهند إلى الكاميرون. يُحتفل بهذا الشهر المبارك من خلال تزيين الشوارع والأسواق والمحلات بالزخارف الجميّلة والأضواء الملونة، وتُعلق الفوانِيس في كلِ مكان، مرددةً بفرح «رمضان جانا وفرحنا به». 

 يُعتبر شهر رمضان لدى اليمنيين من الأشهر التي تتغير فيها حياتهم بدءًا من موائدهم المتنوعة والشهيّة، إلى ممارسة أنشطتهم اليوميّة، فهو بالنسبةِ إليهم ليس مجرد شهرًا عابر، بل هو ايامًا معدوات تتجلى فيها العديد من التقاليد بكل اتّساعٍ ورحابةٍ، والتي تناقلتها الأجيال جيلًا بعد جيل.

 في هذا التقرير سنلقي الضوء على تقاليدنا الدينيّة والاجتماعيّة التي نُمارسها في شهر رمضان المبارك، والتي تميزنا وتجمعنا!

 

احتفالات شهر شعبان:

تُعقد في شهر شعبان العديد من الاحتفالات استعدادًا لقدوم شهر رمضان، تختلف أشكالها من منطقة إلى أخرى. في عدن، تحتفل النساء  بـ "الشعبانيّة"، مرتدية الجلابيات الرمضانيّة "قريقعان"، وفي هذا اليوم تُعد العديد من الأطباق (من كل ما لذ وطاب)، مثل السمبوسة والشوربة والشفوت، ويتخلل اليوم الاستماع إلى التواشيح الدينيّة للنقشبندي وطوبار وغيرهم، ويتم توزيع الهدايا البسيطة، وقراءة وترتيل القرآن الكريم. 

   ومن مظاهر الاحتفالات في عدن، طواف الأطفال في الأيام الأخيرة من شهر شعبان حول الحوافي والأزقة، حاملين بأيديهم الفوانيس، والعلب المعدنيّة "محكمة الإغلاق" حيث تحوي أحجارًا صغيرة وحصوات، تصدر أصواتًا بمجرد هزها. تبعث هذه العلب البهجة والفرح لهؤلاء الصغار ولكل من في الحي، فعند سماعها يدرك الجميع أن "رمضان على الأبواب". 

وتُقام الشعبانيّة أيضًا في حضرموت، ولكن بأسلوب مختلف، تقول مريم (شبام): "تجتمع النساء في إحدى المساجد أو البيوت لقراءة الأدعيّة الخاصة بشهر شعبان، بينما يذهب الرجال إلى القُبة، لتأدية الأذكار، وبعد الانتهاء، تُعقد الرزحة (ضرب الأرجل بالأرض مع إلقاء القصائد الشعريّة) في ساحة القُبة، ترحيبًا بقدوم شهر رمضان، كما يتم توزيع النقود والحلويات على الأطفال لإدخال الفرحة إلى قلوبهم". 

  وفي صنعاء، يُرحَّب بقدوم شهر رمضان بإقامة "يا نفس ما تشتي" في الأيام الأخيرة من شهر شعبان، وفيها تُحضر الأكلات اللذيذة تمامًا كما يحدث في عدن، بل وتبرز فيها الأطباق العدنيّة الشهيّة، مثل الزربيان والبطاط بالحمر. وللمعلوم، في الماضي كانت هذه المناسبة ذات طابع ديني أكثر منه اجتماعي.

 

استعدادات رمضان:

يَستعد أهالي تعز من بداية شهر شعبان بتحضير احتياجات رمضان، مثل شراء "الملحة" من سوق الشنيني، وبعض الأدوات التي تُستخدم في أعداد الحلويات، وكذلك المواد الغذائيّة، ومنها "الشُربة" و"الدُجر" و"شرائح السمبوسة" و "المحلبية" و"البودنج" و"الجيلي"، يقول فهد الظرافي (باحث في التراث والتاريخ): "أتذكر والدتي عندما كانت تَقوم بخياطة روب الصلاة الجديد مع تجهيز ختمتها وسُجادتها، وكنا ننتظر جوار التلفاز لسماع إعلان أول أيام شهر رمضان المبارك، الذي تتغير الحياة اليوميّة فيه؛ يظل الناس خارج المنزل، وتُفتح المطاعم والمحلات التجاريّة حتى أوقات متأخرة، ويلعب الأطفال جوار منازلهم".

   ومثل تعز تكون بقية المدن اليمنيّة على استعداد كبير لاستقبال شهر رمضان، بالإمكانيّات البسيطة والمتوفرة. يُحدثنا هنا الدكتور عزام الرفاعي، بنبرة مشبعة باللهفة والفرح، عن استعدادات أهالي شبوة، يقول: "نبدأ استقبال رمضان بتنظيف وتجهيز البيوت، وتَجمُع الأهل والأقارب، كلٌ في منطقته وقريته، ويتم تجهيز "كبش" رمضان، والذي يسمى في شبوة بـ "الغُرة"، يُذبح في أول يوم رمضان، ويُقسم إلى أجزاء، تكفي الأسرة في الغالب لمدة خمسة عشر يوم".

 

رؤية الهلال:

يبدأ رمضان فعليًا ليلة الإعلان عند رؤية الهلال، وتتطلب هذه العملية شروطًا محددة، مثل انخفاض الهلال تحت الأفق بمقدار معين، ومشاهدته بالعين المجردة، ويجب أن تتم هذه الرؤية من جانب مجموعة معتبرة من الشهود الموثوق بهم لتأكيد بداية شهر رمضان. ولمعرفة المزيد من التفاصيل المتعلقة برؤية الهلال، أجرت (منصة نون وشين) حوار شيق لا يُمّل، مع الدكتور عبد الودود مقشر (أستاذ التاريخ المعاصر) بجامعة الحديدة، تَحدث فيه عن رؤية الهلال في منطقة تهامة، يقول: "في تهامة تشرأب الأعناق في اليمن نحو مدينة الحديدة، حيث رؤية الأهلة، وخاصة هلال رمضان، وتكون إما في جبانة الحديدة، أو على شاطئ البحر الأحمر، وغالبًا تقوم بها أسرة علميّة، تولت الإفتاء فترات طويلة بالمدينة وهي أسرة (الكرم)". و"فور الإعلان عن رؤية الهلال في تهامة، يُعلن عن صلاة التراويح، وهي رمز أساسي في تهامة واليمن، فلا رمضان بلا صلاة التراويح، ولعل اللذة الإيمانيّة والتذوق الروحي لا يتم إلا بتلك التهاليل والأذكار الجماعيّة، كأنك أمام سيمفونيّة أبديّة تنقلك لعالم آخر، الجميع يشترك في صياغتها عبر التناغم الصوتي، الذي يَرفع الصوت ويخفضه حسب بُعد الكلمات وعمقها الروحي، كل ذلك قبل صلاة التراويح، وقبل كل صلاة من الصلوات الخمس وبعدها".

 

مدفع رمضان:

يُعتَبر مدفع رمضان، الذي يأذن بالإفطار، ويعلن في الفجر بدايةَ يومٍ جديدٍ من الصيام، من بين التقاليد الدينيّة القديمة، التي يعود ظهورها إلى عهد الدولة العُثمانيّة. وهو تقليدٌ لا غنى عنه في اليمن، فلا يخلو من جيل أجدادنا وآباءَنا من كان لا يتنظر بلهفة وشوق سماع صوت طلقة المدفع، ومن منهم لم يردد في تعز "دفع دفع يا علي حمود"؟! وفي صنعاء التقت (منصة نون وشين) بالقاضي عبد الحميد دلهام (أحد أئمة الجامع الكبير) لمعرفة ما إذا كان تقليد "مدفع رمضان" مستمرًا في صنعاء حتى اليوم، ولقد أكد على استمراريته، وأشار إلى مكان وجوده، وهو في منطقة نقم، ويقول: "ينتظر الناس حتي يقرح المدفع، وهي إشارة إلى الإفطار، أو الإمساك قبل الآذان بخمس دقائق".

 

المسحراتي:

المسحراتي أسم يُطلق على من يقرع على الطبول لإيقاظ الناس للسحور في شهر رمضان، ارتبطت هذه المهنة بموروث اليمن الشعبي، إلا أنها أصبحت حاليًا محصورة في مناطق معينة فقط، حيث اختفى وجود المسحراتي في الكثير من أجزاء اليمن، منذ أواخر تسعينات القرن الماضي. وأصبح هذا الموروث حاضرًا في بعض المدن، مثل حضرموت (الساحل والداخل)، حيث لا يزال يُمارس فيها حتى اليوم دون كلل أو ملل. يقوم المسحراتي كل ليلة بالطواف في الشوارع والأزقة، منذ الساعة الواحدة إلى الثالثة صباحًا، لتأدية دوره في إيقاظ الناس وتذكيرهم بموعد السحور، مرتديًا شاله "الرمان"، حاملًا بيده الطبلة، مرددًا على ايقاعاته عبارات تراثيّة مثل "رحبوا رحبوا برمضان يا صائمين، رحبوا برمضان شهر رب العالمين، رحبت مكة وأهلها بالزائرين”، و"يا سليمان عاد الله يرد العوائد، عادها تنجلي عنا الهموم والشدائد، بالمسرة تقع أيام سرنا يا سعد، بالرجال لي زانت في صفوف المساجد”. وغالبًا ما يَصحب المسحراتي في "ليلة الهلال" أهازيج يقوم بها الأطفال. 

 

الأجواء الروحانية:

تَحدث معنا كرامة فقيهان بحيويّةٍ لافتة عن رمضان واستقباله في مدينته "تريم الغَنّاء"، والذي يتم الإعلان عنه بطريقتين؛ الأولى بإطلاق المدافع والبنادق، والثانية بإشعال النيران من أعلى قمم الجبال في كل منطقة. يقول فقيهان: "تتميز الليالي الرمضانيّة في تريم بالأجواء الروحانيّة والإيمانيّة، حيث تصدح المآذن بالصلوات والتهاليل والابتهالات، وبإداء صلاة التراويح، التي لا ينحصر وقتها بعد صلاة العشاء فقط كما في العالم أجمع، بل تستمر حتى منتصف الليل، وعلى هذه الأجواء يُمارس الأطفال بعض الألعاب الرياضيّة مثل (النويّة، والكعارير، والصك بالكرة)، وينشدون الأناشيد. أما الكبار فلهم ألعاب أخرى مثل "الدحنك"، وهي لعبة تشبه الغولف. ويبدأ اللعب بعد صلاة التراويح". وعن أهم ما يُميز مدينة تريم، يقول: "تتميز مدينة تريم بختومات المساجد، والتي سميت عادة بـ "الختايم"، نسبةً إلى ختم القرآن الكريم في المسجد أثناء الصلاة، في ليلة معلومة يتم تحديدها مُسبقًا، وتتفاوت الختومات في المساجد؛ فمنها من يَختِم المصحف كاملًا خلال أحد عشر يومًا، ومنها من يَختمه في خمسة عشر يومًا، وعادةً ما يُرافق ليلة الختم، طقوس جانبيّة أخرى كـ"الختامي"، حيث يقوم الأطفال بمسيرة يجوبون خلالها المنازل في الحي، وعادةً ما يختارون المنازل التي يكون فيها حدث جديد، مثل مولود جديد، أو عروس جاءت إلى بيت ما، أو مسافر جاء من الخارج، ويقوم رب البيت بتوزيع ما تَيسر للأطفال، كالحلوى أو الحنظل أو الفشار، وتُعرف عادة الختامي في أماكن أخرى بالوريقة".

يصف الظرافي أجواء تعز الرمضانيّة: "تَجد الروحانيّة في المساجد والجوامع القديمة مثل جامع المظفر والأشرفيّة والمعتبية والعرضي وغيرها، والتي تمتلئ بالمصلين، الذين يقرأون القرآن في كل زاوية وركن". و"يظل كثير من المصلين وكبار السن في المسجد لقراءة القرآن حتى صلاة العصر، ومن بعدها يخرج الكثير من الشباب للتنزة في شوارع المدينة وأحيائها القديمة، أو الذهاب إلى جبل صبر أو إلى قلعة القاهرة، وقبل نداء المغرب يُفتح التلفاز للاستماع إلى القرآن بصوت المقرئ البصير محمد حسين عامر أو الحصري، الذي يسمعه كل أهالي المدينة ويشعرون بهذا الشهر الفضيل". 

وعن روحانيّة مدينة شبوة، يقول الرفاعي: يعكتف الكثير من الشباب في المساجد لقراءة القرآن في الصباح، ومن بعد صلاة الظهر وحتى العصر، يُمارسون الألعاب مثل (الضمنة والباصرة)، وعند الفطور يتجمع الناس، ومن كل بيت يُقدم الطعام إلى المسجد، وغالبًا ما يحمله الأطفال، ويتم تَحضير سفرة، تسمى "الفطرة" التي يجتمع حولها أهالي المنطقة، وبعد صلاة المغرب، يرتاح الناس في البيوت إلى صلاة العشاء، ومن بعد ذلك تُقام صلاة التراويح، وبعد الانتهاء تُقام تجمعات للشباب، تسمى بـ "المسمر"، ويكون مكانها في دكان أو مسجد، وتستمر حتى وقت السحور، وفيما يخص كبار السن، فإنهم يختمون القرآن ثلاث أو أربع مرات في الشهر".

ولا تختلف الروحانيّة التي تتمتع بها منطقة تهامة عن بقية المدن اليمنيّة، يقول الدكتور عبد الودود مقشر: "بعد صلاة التراويح في تهامة، يبدأ العشاء، ومن ثم التوجه الى المبارز والمنازل العلميّة والأربطة لتناول القات وقراءة القرآن، ويسمى في تهامة هذا التقليد الديني العادة بالراتب القراني، وهو لا يقتصر على المنازل العلمية والمبارز والأربطة، بل يَعم المنازل العاديّة والمحلات، وتنتهي العادة في العشرة الليالي الأخيرة من شهر رمضان، التي يتم فيها أيضًا ختم المساجد، والحقيقة أن هذه العادة تمتد الى الدولة الزياديّة، ثم النجاحيّة والأيوبيّة والرسوليّة، وهناك أسانيد حديثية تُثبت عمقها التاريخي".

 

المطابخ  الخيريّة:

بالطبع المطابخ الخيريّة الرمضانيّة في اليمن لها حضور منذ القدم، إلا أنها أصبحت في وقتنا الحالي متوفرة أكثر من السابق، بسبب الظروف الاقتصاديّة الصعبة التي يمر بها البلاد. تقوم هذه المطابخ بتقديم وجبات الإفطار والسحور للفقراء والمحتاجين، وهي تَحظى بمكانةٍ خاصة في مدينة صنعاء. يقول الدكتور عبد الله محروس، أحد المساهمين فيها: "شعور عظيم أن أكون جزء من هذا العمل الخيري، وأن أقف في ظل هذه الظروف مع الأسر المتعففة التي زاد عددها بسبب أوضاع البلاد السيئة، وهذه المطابخ لا تُقدم فقط الطعام للمحتاجين، إنما تُسهم أيضًا في زرع قيم الإنسانيّة والتعاون والتكافل في المجتمع". ومن اللافت أيضًا المطابخ الخيريّة في مدينة تريم الغَنّاء، التي تُقيمها الأربطة الدينيّة، لتُعبر عن قيم العطاء والبذل والإيثار التي تمتع بها دائمًا أهالي حضرموت. 

 

السماحة والكرم:

وليست المطابخ الخيريّة الوحيدة التي تُعبر عن سخاء وكرم اليمنيين، بل هناك العديد من التقاليد الاجتماعيّة التي تبرز تلك الصفات، رغم التحديات التي تمر بها البلاد، والصعوبات التي يواجهها الكثيرون في السعي لتأمين لقمة العيش، وعبر عن ذلك تمامًا محمد جمال المسعودي (مدرس في جامع العيدروس) بعدن، في قوله: "رغم تعقيدات الظرف الاقتصادي الراهن الذي تعيشه البلاد إلا أننا نجد في عدن، خلال شهر رمضان، الكثير من الشباب الذين يخرجون قُبيل موعد أذان المغرب إلى الطرقات وجولات المدينة، لتوزيع التمر والماء على المارة، كخطوة تطوعيّة لتعزيز ثقافة السلام والتسامح". وحدثنا أيضًا مازن عوض (أبين) عن ما يقوم به أهالي مدينته عند الإفطار، وهو حرص الكثير منهم على أخذ جزء من الأكل الموجود في منازلهم، ومشاركته مع الآخرين في المسجد، أو مع الجيران، لتسود المحبة والإخاء بين الناس. وإلى جانب ذلك، يقوم العديد من الشباب بتوزيع التمر أو وجبات الإفطار على المارة في الشوارع والطرقات.

 

هذه التقاليد الاجتماعيّة والدينيّة التي احتفى بها أجدادنا وآباؤنا، ولا تزال حاضرةً حتى اليوم، لا يمكننا تجاهل أنها عنصر مهم يربط المجتمع اليمني بكل أطيافه ومكوناته الاجتماعيّة، ويعكس قيم الكرم والسخاء والتواضع التي تمتعوا بها، ويشكل جزءًا أساسيًا من تراثه وحاضره ومستقبله. لذلك يجب أن لا ننسى أننا إذا لم نعترف بماضينا، فلن نتمكن من خلق مستقبلنا.