البُن اليمني وأصل الحكاية

البُن اليمني وأصل الحكاية

البُن اليمني وأصل الحكاية

 عزيزتي القارئة ... عزيزي القارئ، هل تعلم أن هناك ارتباط تاريخي وثيق بين اليمن والبُن؟ فالنتعرف معًا على أصل الحكاية!

   تَروّي الحكايات والأساطير، أن صوفيًا يمنيًا سافر إلى إثيوبيا، ولاحظ أثناء تواجده على منحدرات جبل، معيز تقفز وترقص وتظهر بحيويّة مرتبكة، رآها كذلك تمضغ أوراق شجرة البُن وحبوبها، فجرب تناولها، ووجدها ثمار مرّة، فسلقها وشرب سائلها، شعر بعدها بالراحة واليقظة، وهكذا ولدَ أول فنجان قهوة. نَقل الصوفي شتلتات البُن إلى اليمن، وقدم المشروب الجديد لتلاميذه، الذي أبقاهم  مستيقظين أثناء تأملاتهم، وشعروا ايضًا بحالة من اليقظة والبهجة.

    وهناك رواية أخرى بأن أول من زرع شجرة البُن في اليمن كان جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد الذبحاني، في القرن الخامس عشر الميلادي. والذي كان متوليًا رئاسة الإفتاء في عدن. عُرض عليه أمر اقتضى خروجه إلى الحبشة وعاش فيها دهرًا. كان يشرب مع أهلها شرابًا لم يعرفه العرب، وعند عودته إلى عدن قام بزراعته. وكان من أمره أن سلك طريق التصوف، فصار هو وغيره من الصوفيّة يستعينون بهذا الشراب، على السهر، وقيام الليل، والتعبد، والأذكار، وأسموه "القهوة". 

 بخلاف الروايتين، يَذهب البعض بأن اليمن هي موطن البُن الأصلي، استنادًا إلى نتائج تَوصلت إليها بعثة استطلاعيّة تابعة لمنظمة الغذاء والزراعة الدوليّة، أثناء دراستها لأشجار البُن في الحبشة 1964م".

انتشر البُن اليمني إلى جزيرة العرب قبل 1300 سنة، رغم ظهور الموانع الدينيّة، كونها كانت تباع في الخانات، ويجتمع حولها الناس بالدف واللعب بالشطرنج وغيرها، والموانع السياسيّة، من منطلق أنها كانت مصدر للتجمعات، التي قد تُثير القلاقل. انتشرت لأول مرة في مصر في القرن الخامس عشر الميلادي، بعد أن جلبها الطلاب اليمنيون إلى رواقهم في الجامع الأزهر.

البُن اليمني والتجارة العالميّة:

  بعد استقرار  القهوة في المشرق العربي، تسربت إلى أوروبا عن طريق القسطنيطينية والبندقية في القرن 17م، بعد رحلة (ليونهارد راولف) من مرسيليا إلى جزيرة العرب، ولقد ذُكرت القهوة في كتابه (الرحلات) الذي طُبع في فرانكفورت عام  1538م، بمسمى (kajveh) ثم اشتقّ منها بعد ذلك الأسم الإنجليزي (كوفي)، والفرنسي (كافي)، ثم انتشر هذا المشروب في أوروبا، ووصلت صادرات البُن من اليمن خلال القرن 17 -حسب تقدير أندريه ريموند- إلى أكثر من 200000 قنطار.

    أصبح البُن اليمني خلال القرن السابع عشر إلى منتصف القرن الثامن عشر، من أثمن السلع في التجارة العالميّة، حيث تنافس عليه الإنجليز والهولندييين والفرنسيين، وتوقفوا بانتظام في ميناء المخا، ومن هنا جاء مصطلح "موكا" Mocha، الذي تم اطلاقه بعد ذلك على  جميع واردات القهوة من الجزيرة العربيّة. وصف تاجر من القرن الثامن عشر طبيعة تجارة البُن، بقوله: "يمكن اعتبار ثروات اليمن بسبب قهوتها وحدها". وعُدت عوائدها من أهم مصادر الدخل للدولة القاسميّة، حتى أصبح من غير البعيد تسميتها بـ "إمامة القهوة".

   قام الأوربيون بزراعة البُن اليمني في أوروبا، بعد ازْدِياد الطلب العالمي عليه، ونتيجةً لصعوبة المواصلات مع البلاد العربيّة، وانشئ أول مقهى في إنجلترا عام 1652م.

   ورغم اختلاف الروايات حول ما إذا كان البُن من اليمن أو إثيوبيا، كان من المؤكد أن أصل البُن الذي زرع في العالم من اليمن، يقول فهد الشهاري، أحد منتجي القهوة اليمنيّة (في حواره مع نون وشين): "البُن الذي زُرعَ في العالم أغلبه يمني، وللآن لم يتم تحديد أصله ما إذا كان من اليمن أو إثيوبيا، تبلغ فصائل البُن في اليمن (44) فصيلة، تعود للفصيلة الأم "تيبيكا"، وهي مختلفة عن تلك الموجودة في إثيوبيا". وتقول راشيل هاجر (Rachel Hajar): "بدأت الزراعة الرسميّة للبُن في اليمن وما زالت القهوة اليمنيّة تعتبر الأفضل في العالم". 

التراجع:

تراجعت تجارة البُن اليمني منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر، بسبب عدة عوامل، يأتي في مقدمتها توقف تجارة العبور المصريّة من البُن إلى تركيا،  بسبب حرب السنوات السبع (1756-1763)، والاضطرابات السياسيّة التي رافقت محاولات العثمانيين لإعادة فرض حكمهم المباشر على اليمن، ثم منافسة قهوة جافا(تحت الإدارة الهولندية) للبُن اليمني، بعد أن نجحوا -بعد محاولات عديدة- في نقل شجرة البُن من اليمن الى جزر جافا، وسيلان، وومانغ في عام 1715م، وإلى البرازيل عام 1727م، ثم إلى الجزر الهولندية وجزر المحيط الهادي، حتى وصل إلى افريقيا الغربيّة والوسطى. وبحلول أوائل القرن التاسع عشر، احتكرت السفن والمحلات التجاريّة الأمريكيّة تجارة البُن اليمني، لكن سرعان ما تم كسر احتكارها، بعد أن نمت أشجار البُن بكميات كبيرة وبتكلفة أقل في مستعمرات أوروبيّة في شرق آسيا، وشرق إفريقيا، وأمريكا اللاتينية. وفي بدايات القرن العشرين، قصفت المدفعيّة الأيطاليّة ميناء المخا 1912م، في الحرب العثمانيّة الإيطاليّة، وأخذت عدن الدور في تصدير البُن، إلا أن أسم المخا (Moka) ظل باقيًا في اذهان الغربيين، كأفضل أنواع البُن اليمني على الإطلاق.

    وتم تقييد نمو إنتاج البُن في سبعينيات القرن الماضي، بسبب الجفاف وندرة العمالة، والمنافسة من المحاصيل النقدية الأخرى على استثمار المزارع. وفي الثمانينيات ظهرت احتماليّة إحياء البن اليمني بسبب اهتمام كلٌ من الأمريكيين والأوروبيين بشراء الأنواع المختلفة من القهوة، إلا أن مشكلات مراقبة الجودة، والإمداد المتوقع، وتخلي شركة ستاربكس عن القهوة اليمنيّة حال دون تحقيق ذلك، إلى جانب انتشار زراعة القات على حساب المحاصيل الأخرى على رأسها البُن.

   وحول المعوقات الحالية التي تواجه البُن اليمني، وتقف أمام تصديره، يقول الشهاري: هناك العديد من المعوقات، منها مشكلة الشحن، بسبب الأوضاع التي تمر بها البلاد وإغلاق المطار، فأرسال عينة من البُن إلى خارج اليمن، يستغرق فترة طويلة، عدا أن سعر الشحن مرتفع جدًا، حيث أن قيمة النص كيلو تصل من 120$ إلى 300$. ومسألة ارتفاع أسعار الشحن مشكلة عالميّة لا ترتبط فقط باليمن، وخاصة في فترة جائحة كورونا. وهناك ايضًا مشكلة قلة الطلب على البُن اليمني، بسبب ضعف إنتاجه، وعلوّ جودته، وبالتالي ارتفاع ثمنه، فتجاريًا يُعد هو الأغلى، حيث أن سعر الحاوية البرازيلي -20 طن- يساوي طن يمني فقط، وبالطبع السوق التجاري يبحث عن الأرخص ثمنًا، بغض النظر عن الجودة. وهناك مشكلات أخرى، مثل، ربح المزارع القليل من زراعة البُن، ونحن الآن كقهوة مختصة وتجار بدأنا بالدفع للمزارع أكثر من السوق التجاري، بل ونقوم نحن بتجفيفها وتحميصها بدلاً من المزارع. ايضًا يَتم زراعة شجرة القات بنسبة 60% على حساب البّن، الذي تبلغ نسبة زراعته 40%. وإلى جانب ما تَطرق إليه الشهاري، لم تشهد مناطق زراعة البُن أي تطوير في بنيتها التحتيّة من طرق وكهرباء وخدمات أخرى، بحكم مواقعها، وتضاريسها الطبيعيّة الصعبة، التي يتطلب أمر إصلاحها اعتماد مبالغ كبيرة، تفوق القدرات والإمكانيّات المتوفرة، مما يؤدي إلى زيادة تكاليف وحدة الإنتاج، مقارنة مع سعر السوق للأصناف الأخرى، التي يمكن الحصول عليها بوسائل أخرى أقل تكلفة.

   وبعد انتهاء الحكاية، قد يتبادر إلى ذهنك تساؤل؛ هل بالإمكان عودة البُن اليمني إلى الصدارة؟ 

   لكي نجيب على هذا التساؤل، التقينا مع أ. د أمين الحكيمي، المدير التنفيذي لمؤسسة التشاركيّة للبحوث والدراسات والنشر، وأستاذ تربية النبات وانتاج البُن والمحاصيل المنبهة بكلية الزراعة جامعة صنعاء، يقول: "بَقى البُن مكافح خلال القرنين 19 و20م، رغم جميع الضغوطات؛ ارتفاع تكاليف الإنتاج، واِبْتعاد اليمن عن التجارة العالميّة، وظلت هناك شركات كبيرة تستثمر وتنتج البُن بسعر منخفض جدًا، إلا أنه بالإمكان أن يعود البُن اليمني للصدارة، عبر المحافظة على بيئة نظيفة لإنتاجه، بعيدة عن التلوث (الهوائي، والأرضي، والمائي)، والمواد الكيميائيّة (الأسمدة، والمبيدات)، التي لم تدخل إلى اليمن إلا في السبعينيات والثمانينيات، ثم زادت بعد ذلك حتى أُغرقت الأرض اليمنيّة بها،  ايضًا من الملوثات عوادم السيارات، التي لها انعكاس كبير على نكهة البُن وجودته، حيث يُعد من المحاصيل التي تَمتص الروائح، سواء في الحقل، أو أثناء التخزين، أو في التصدير. ولكي يعود البُن للصدارة يجب ايضاً، عدم الاهتمام بالإنتاج العالي، على حساب الجودة، والذي قد يضعفها، وبالتالي ضرورة وجود اتزان بين الكميّة والنوعيّة. وضرورة دعم المزارع اليمني في إنتاج البُن النظيف، باستخدام الوسائل التقليديّة، بعيدًا عن إدخال أية وسائل حديثة، مثل البُن المتخصص، واستخدام السراير للتجفيف، التي تُدمر جودة البُن وسمعته. وأخيرًا، إعطاء المجال للبحث العلمي وللمتخصصين، وتوحيد الجهود في هيئة وطنيّة عليا للمحافظة على سمعة البُن".

     المراجع العربية: 
   (1). جامعة الدول العربية: تطوير زراعة البن في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. الخرطوم 1978م.
  (2). دوبلة، حمدي: بن اليمن هل يحافظ على بريقة. العدد (119)، سبتمبر 2005، ص 77
  (3). السعدي، عباس: البن في اليمن ... دراسة جغرافية. مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء 1992، ط 1.
   (4). غالب، أحمد: واقع وافاق زراعة البن في اليمن. مجلة المالية، العدد (115)، سبتمبر 2004، ص 24.
  (5). غالب، أحمد: البن اليمني الأشهر في الاسواق العالمية. مجلة المالية، العدد (140)، ديسمبر 2010، ص 10.

  المقابلات:
   (1). الحكيمي، أمين. جامعة صنعاء، كلية الزراعة. الأحد، 5 مارس 2023. 10:30 ص.
   (2). الشهاري، فهد. مقهى درر، صنعاء. الأحد، 5 مارس 2023. 12:00 م.


   المراجع الأجنبية:
   (1). Adnan Tarcici:The Queen of Sheba's Land: Yemen (Arabia Felix), page 44.
   (2). Bernard Haykel‏: Revival and Reform in Islam: The Legacy of Muhammad Al-Shawkani. the pre vindicate of the chivirety of Cambridge, page 16-17.
   (3). Fawzi ATaha:The Yemen Arab Republic: An Export Market Profile, page 18.
   (4). IBP, Inc: Yemen Taxation Laws and Regulations Handbook - Strategic Information and Basic law, page 129.
   (5). Khaldoun Nassan Al-Naqeeb‏: Society and State in the Gulf and Arab Peninsula (RLE: The Arab Nation), page 55
   (6). Max Kasparek: Yemen, the Haraz Mountains: A Hiking and Trekking Guide, page 28.
   (7). Rachel Hajar : My Life in Doha: Between Dream and Reality, page 66.
   (8). Ragaei el Mallakh: The Economic Development of the Yemen Arab Republic (RLE Economy of Middle East), page 161.
   (9). Robert D. Burrowes‏:Historical Dictionary of Yemen.‏Scarecrow Press، Inc, page 70.
   (10). Roger H. Guichard: Niebuhr in Egypt: European Science in a Biblical World, page 159.